الوكالة العربية للصحافة أپاپريس - Apapress
مقالات
حوارات 
مغربيُّ الهوى.. عراقيّ المولد" حوار مع الشاعر والإعلامي وليد عبيد "آل يودة"
عانقـَت أشعة شمس الغروب "وادي أبي رقراق " فأسرته بعذوبتها وألهمته بسحرها، معه في سيمفونية الدفء هذه , الأرواح المغتربة و القلوب النازفة كقلب شاعرنا العراقي المولد المغربي الهوى، فمن يبحث عنه لا بدّ أن يجده في منتدى شعري أو مقهى أدبي وعشاقه من حوله، وهم ينصتون إلى دفق الإحساس المنسدل من وجدانه إلى أوراقه ليتلوه بشفته، و أما نحن لا نملك أمام هيبة هذا الإحساس المتدفّق سوى الاستماع لنبض الشاعر ونحيب صمته، متذكرا نهري دجلة و الفرات.. مستنشقا ريح العراق، القادم من الذكرى القريبة البعيدة، فيعود الدمع لمنبعه ويجد الشاعر نفسه يتأمّل الرقراق حالما بغد أفضل. فيا ترى ما سرّ ذلك السفر الحزين في أعين شاعرنا وليد عبيد آل يودة ؟ إذن، لنقترب أكثر أعزائي القراء من عوالمه الإبداعية الإنسانية، عسى نستطيع فكّ بعض شفرات هذا الحزن المسافر.
• بعد التحية الوجدانية لروحك الشامخة الأبيّة شاعرنا أ وليد عبيد آل يودة، أجدني أفكر مليا بنسق من قصيدة تقول فيها:
مغربي الهوى
عراقيّ المولد
فرات منبعي
من أبي رقراق
مرقدي
بابليّ معهدي
علوي مرتعي
نجمة خضراء
راية حمراء
إنه دمــــــي
• هل حقا أن بلدك الثاني المغرب ترسخ هواه في وجدانك كما ذكرت في النسق الشعري أعلاه؟ حدّثنا عن جذور هذا الحب؟ وعن تجربتك الشعرية، منذ العراق، منذ الطفولة، منذ ذلك الكائن المتمرّد داخلك؟
- لا زلت أتذكر أول نشيد حفظته في المدرسة الابتدائية و الذي يقول :
بلاد العرب أوطاني... من الشام لبغدان
ومن نجد إلى عدن... إلى مصر فتطوان
فكنت أحلّق في خيال طفولي وأحلم أن أجوب ذات يوم تلك الأوطان حتى أصل إلى (فتطوان) لأنّي كنتُ أتصورها من خلال ذلك الخيال الطفولي، بأنها حافة الأرض، بل كنتُ أتصورها حافة الكون. كما أن المواد التاريخية و الجغرافية التي درسناها كانت تتحدث بإسهاب وبأدق التفاصيل عنها، وكنت أعيش تاريخ المغرب في كل حقبه ابتداء من عهد الأدارسة و المرابطين و الموحّدين والمرينيين و الوطّاسين و السعديين حتى تاريخنا المعاصر، فتكونت لديّ صورة بأدق التفاصيل, فلطالما أبتسم ضاحكا وأنا أجوب مدن المغرب وكأنني ولدتُ فيها منذ ذلك الحين، فلم تكن غريبة عن ناظري ومخيلتي، وكلّ هذه الأسباب جعلت هواي مغربي حتى النخاع.
أما بالنسبة للشعر فكانت بدايتي منذ الصبا لشغفي بالأدب العربي عموما و الشعر على وجه الخصوص، وأذكر أن أول ما قرأته كتاب " ألف ليلة وليلة" و الذي شذّب شخصيتي وأضفى عليها طابعا من الخيال المفعم بالرومانسية و القيم المثالية العذرية، و التي ما زلت متشبثا بها وكانت " ألف ليلة وليلة" مليئة بالأشعار العذرية والوصفية إضافة إلى الكثير من دواوين الشعر التي قرأتها ابتداء من أصحاب المعلّقات إلى العصر الأموي فالعباسي وصولا إلى نازك الملائكة و السياب ونزار.
وقد تتلمذت على يد أساتذة في سبعينيات القرن الماضي وأستطيع أن أصفهم بأنهم أساتذة الزمن الجميل فكانوا في قمّة المثالية و الحس العربي المرهف، زرعوا فينا العشق و المفاخرة بحضارتنا وعمقها التاريخي و الإنساني، وغرسوا فينا حبّ التعايش وقبول الآخر وفق المعيار الإنساني الصرف بعيدا عن النظرة الضيقة وبغض النظر عن المعتقد والانتماء و الدين، وكانوا يحتفون بكلّ تلميذ يلمسون فيه الجانب الإبداعي على مستوى جميع الفنون، بل ويدعمونه بكل ما أوتوا من قوة.
• العراق تلقب ببلد السواد، لم في رأيك؟ وهل هناك علاقة ما بين معاناتك كإنسان داخل العراق وتفجّر هذه الموهبة الربانية في كيانك وأقصد هنا موهبة الشعر؟
- ليس برأيي وحسب وإنما الحقيقة التاريخية لهذا اللقب إن بلاد الرافدين، جاءت في وادي خصب وتربته الغرينية تميل إلى السواد فلم يكن فيها موضع قدم وإلا وكان منبت زرع وخير، فالناظر إلى أرضه عن بعد كان يلمح ذلك السواد ومن هنا جاء اللقب، أما اليوم فهو أصبح بامتياز أرض السواد، رغم أن أرضه تصحّـرت وزرعه ذبل نتيجة بعض السياسات الحمقاء التي ارتكبتها الحكومات التي تعاقبت عليه بعد سقوط النظام الملكي سنة 1958، فأكثر من 30 عاما من الحروب و القتل والتدمير وحتّى يومنا هذا، تصحّرت الأرض ونزعت ثوبها الأسود لتلبسه المرأة العراقية الثكلى بزوجها وابنها وأخيها ممن التهمتهم آلة الحرب و القتل والإرهاب، أكثر من ثلاث أرباع عمري عشتها تحت نير الحرب والقصف وقوافل الشهداء، فكان لها الأثر في تفجر مواهبي الشعرية و كان لابد أن يطغى عليها التناقض بين الأمل واليأس والفرح والحزن، ولا شك إن هذه التناقضات هي وليدة تلك الحقبة التي لم يشهد العالم مثيلا لها من حيث الألم و المأساة.
• في المقدمة ذكرتُ حبّك لوادي أبي رقراق الذي يذكّرك بنهري دجلة والفرات.. ما مدى شوقك لهما وللعراق عموما ؟ وهل تترجم هذا الشوق في كتاباتك الشعرية ؟
- دجلة والفرات رمزان من رموز الحياة و السلام و العطاء وهما يمثلان فضاء رحبا للتأمل، بل إنهما يقتربان من بعضهما البعض في أقرب الملتقيان عند بغداد، فهل هي الصدفة المحضة؟ أم هي بغداد التي بعشقها تكاد تتعانق الأنهار شوقا للقائها؟ شوقي للعراق عظيم مـَدى عظمة العراق وإن جار عليّ، فأقول:
" بلادي وإن جارت عليّ عزيزة * وأهلي وإن شحّو عليّ كرام "
ولقد ترجمت في قصائد كثيرة الحب لهذين النهرين الخالدين، وتحيّرتُ في وصفهما، فتارة هما نهرا عسلٍ، وتارة دمعتان تُسكبان على خدّي بغداد العروس، حينما أقول:
أيا بغداد عروسا
هُتكت ليلة عرسها
دجلة و الفــرات
على الخدّين يسكبان
• كشاعر ومثقف وإنسان عراقي بالدرجة الأولى، ماذا تعني لك هذه الأسماء : زقورة أور – القيثارة السومرية –- بابل – نينوى- آل ليودة ؟ ولم في رأيك التعتيم الإعلامي وعدم الاهتمام الكافي بالبحث في حضارات العراق القديمة قدم التاريخ والرائدة في أغلب مجالات الحياة العلمية والإبداعية والإنسانية؟
- زقورة أور: من أوائل المعابد التي أنشأها الإنسان إن لم يكن أولها قبل أكثر من ألفين سنة ق م حينما بدأ الإنسان يفكّر بأن هذا الكون لم يكن عبثا وإنما هنالك قوة مهولة أنشأته فمن هذه الأرض عرف الإنسان الطريق إلى الذات الإلهية.
- القيثارة السومرية: دليل قاطع على أن أهل العراق أول من عبّر عن مشاعره موسيقيا محوّلا الكلام إلى أنغام عذبة لا تخلوا من الفصاحة و البلاغة بل هي اللغة المشتركة بين سكان الأرض جميعا، وكان ذلك قبل ما يربوا على ألف وخمسمائة سنة ق م.
- بابل: أرض اصطفاها الله لتكون مسرحا ليعتبر العالم من خلاله وذكرت في القرآن الكريم وهبط إليها الملكان هاروت وماروت، وحكمها حمورابي العظيم والذي هو أوّل من سنّ وشرّع القوانين وأقام الدساتير، فهل تعلمون أول من سن مبدأ العين بالعين والسن بالسن هو حمورابي . وهل تعلمون أن أول من كتب الحرف ومن علم البشرية الكتابة هم أهل بابل. وهل تعلمون أن مسلّة حمورابي التي سطّرت فيها تلك القوانين تقبع في " متحف برلين" منذ أكثر من مائة عام.
وإن كلّ التعتيم الإعلامي على هذه الحضارات داخل بلد واحد هو العراق، هو امتداد لصراع وجودي منذ الأزل، فعلى هذه الأرض تصارعت حضارات وحضارات ولا زال إرث هذا الصراع قائم إلى يومنا هذا. فاليهود على سبيل المثال مازالوا يخلّدون في تراثهم قضية السبي البابلي الأول و الثاني، وما تلاها من صراعات سواء كانت دينية أم سياسية فكلّها تصب في خانة الوجود. ومهما ثم التعتيم على هذه الحضارات الخالدة خلود الأزل، إلى أن الشمس لا تغطى بالغربال.
- نينوى : أرض نوح ويونس عليهما السلام، ففيها بنى نوحا فلكه ومنها خرج يونس عليه السلام، وفيها ولد تاريخ للحضارة و الفن فهي مسقط رأس إسحاق الموصلي وزرياب وفيها المنارة الحدباء، وتاريخها العريق يمتد إلى ما قبل الألف الخامس قبل الميلاد، وهي أم الربيعين إذ وهبها الله ربيعين في السنة، كما أنها أرض الحضارة الآشورية التي خلّفت آثارا تشهد بعظمتها، فهي أرض غنية عن التعريف ومن يزورها يعرف مدى عراقتها وعمقها التاريخي.
- آل يودة أو آل جودة: فرض علي كاسمي ولم أختره أنا وهو الاسم العائلي لقبيلتي التي هي جزء من أعرق إمارة في الجزيرة العربية وأكثرها انتشارا وشهرة ألا وهي قبيلـة " ربيعة" التي تضرب أطنابها أرجاء الجزيرة العربية وبلاد الشام و العراق من شماله إلى جنوبه، ومن العلامات الفارقة التي تميّز إمارة " ربيعة" تلك الحقبة التاريخية من حرب " داحس والغبراء" و التي تقاتل فيها أبناء تلك الإمارة فيما بينهم لمدة أربعون عاما، والقصة مشهورة.
نعم أنا أعتز بعربيتي لكنّي قبل هذا أعتز بإنسانيتي فمبدئي في الحياة:
" كن ابن من شئت واكتسب أدبا* يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال هــا أنـا ذا * ليس الفتى من قال كان أبي "
كما أن لي مقولة تخصني وأنا صاحبها أودّ من خلال منبركم أن أخاطب بها العالم على وجه العموم وأبناء بلدي العراق على وجه الخصوص، الذين تطاحنوا فيما بينهم ذات يوم في مهزلة تاريخية اسمها الحرب الطائفية، بل ومما يثير العجب و السخرية أنه في بلد يكتظ بالمعتقدات والاثنيات بل ويصل ذلك إلى وجود فئات تعبد النجوم وفئات تعبد الشيطان وترى المسلمين يتقاتلون تحت اسم مذهب فيا لعجبي ! ، فأقول:
أعبد من تشاء فأنا لن أحاسبك
واعتقد بمن تشاء فلربما أشاركك
ولكن عاملني كإنسان فهكذا أعاملك
• لكل شاعر وطن مختار، وأرى أن وطن الشاعر ديوانه، حدّثنا عن ديوانك وعن الجديد بالتأكيد؟
- ديواني الجديد لم يولد بعد لكنه قيد المخاض. واخترت له عنوانا ارتبط بعشقي وهواي للمغرب فأسميته : " هموم على ضفاف الأطلسي" وهو نزيف ليراعي وأنا أذكر الأحبة والأهل وقبلهم الوطن، فطالما أجوب شوارع الرباط بحلّتها وجمالها وطيبوبة أهلها والأمن والأمان الذي يملأ أزقتها دفئا وطمأنينة فيهرع القلب بالدعاء للأهل وتغرورق العيون حزنا على ما يكابدوه من مآسي وفقدان للأمن والأمان تحت ظل أشرس هجمة عرفها القرن الحادي والعشرين لكني في خضم كل ما يحدث متجمل ومتفائل بأن بغداد ما إن تسقط حتى تنهض وهي أقوى مما كانت عليه وهذا هو ديدنها منذ أن عرفت. وكأني استحضر المتنبي لينشدني:
الحزن يقلق والتجمل يَـرْدَعُ* والدّمع بينهما عصي طيّـعُ
• ذ وليد، كم هو جميل أن نختم حوارنا كما بدأ من نزف بوحك الشعري الراقي، وبكلمة نابعة من قلب شاعر عميق بفكره عانى الكثير منذ كان إلى الآن؟
- اهدي إلى منبركم الإعلامي الموقر، قصيدة من ديواني متمنيا أن تنال رضا القراء ورضاكم.
..غربــة..
بين غربة الروح
وغربة الوطن
ذاب جفن العين
بين السهاد والوسن
صراع مرير.. دمع غزير..
زفرات.. حسرات..
الرأس وسادة
والجسد سرير..
والعمر مرتهن
بين غربة الروح
وغربة الوطن.
هموم شتى والليل طويل
والفجر لملم أوصاله
وقرّر الرحيل.
لا قمر ينير العتمة
لا سراج.. لا فتيل..
ولم يبقى سوى
ذلك الجسد الهزيل
يصارع الضعف والوهن
بين غربة الروح وغربة الوطن
لم يبقى من حولك سواك
فسيان بات حياة أم هلاك
لا راحة في تلك
ولا شفاعة في ذاك..
أيها القدر المحتوم ألم تحنِ
بين غربة الروح وغربة الوطن
أيها العارفون لقصتي...
و المدركون لغصتي...
إليكم أيها الأحبة وصيتي
فإن دنَت منيتي...
فادفنوني بلا قبر ولا كفنِ
فتلك هي غربتي
غربة الروح وغربة الوطن.
تعليقات القراء