سنة 1958 - أممت أندونيسيا المصالح الهولندية في أراضيها سنة 1973 - أصدرت الأمم المتحدة قرارات معاقبة مجرمي الحرب، ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية سنة 1987 - وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 129 صوت، على عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط سنة 1990 - سقوط العاصمة الصومالية "مقديشيو" في يد المتمردين ضد حكم الرئيس الصومالي سيادبري سنة 1966 - وفاة المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي. سنة 1920 - أرمينيا تنضم إلى الاتحاد السوفيتي. سنة 1921 - تولى جعفر والي باشا رئاسة الاتحاد المصري لكرة القدم. سنة 1967 - استطاع الطبيب كريستيان بارنارد من جنوب أفريقيا أن يزرع قلب إنسان في إنسان آخر لأول مرة في التاريخ. سنة 1971 - قامت الهند بشن غزو عسكري ضد باكستان وتمكنت من احتلال باكستان الشرقية. سنة 1992 - سمح مجلس الأمن للولايات المتحدة بقيادة عملية عسكرية عاجلة في الصومال.
كُتب بواسطة: مصطفى لغتيري، ونُشر بواسطة:
أبابريس شوهد 3068 مرة، منذ تاريخ نشره في 2013/08/07
د. يوسف حطيني
تمهيد:
نعتقد أنّ الجدل الذي أقيم على مدى السنين الخمس عشرة الماضية حول انتماء المفارقة لأركان القصة القصيرة جداً قد حُسم لصالحها، إذ بدا لمعظم المنظرين أنّ وجودها عنصر لازم لا يمكن الاستغناء عنه، لبناء قصة قصيرة جداً، تحمل مدلولاتها الرؤيوية، وألقها الفني بكل جدارة.
وبعيداً عن كلّ التنظيرات لمعنى المفارقة وأشكال تجلياتها في القصة، وإبعاداً لكل لبس في المعنى، فإننا نرى أنّ المفارقة في القصة القصيرة جداً تعني لجوء القاص إلى إبراز تناقض ما (تعارض ما، تقاطب ما) بين المنظومات الموضوعية، أو البنى الفنية التي تشكّل النص، سعياً إلى تعميق الإحساس بالظاهرة التي يتبنّاها القاص.
وثمة مجالان أساسيان تجول المفارقة فيهما، هما مجالا الشكل الفني والموضوع؛ إذ يمكن للقاص أن يسعى في داخل أحدهما، أو في كليهما، من أجل الكشف عن الحوامل الممكنة للثنائيات الضدية التي يرتضيها شكلاً للتعبير عن مكنوناته.
* * *
أولاً ـ في البحث عن مفارقة بنائية:
يعدّ المكان واحداً من أغنى أشكال صناعة المفارقة بسبب ما يتيحه التموضع المكاني من ثنائيات ضدية صالحة للاستثمار، فثمة البعيد والقريب، والمفتوح والمغلق، والـ (فوق) والـ (تحت)، والـ (هنا) والـ (هناك)، والأصل والمجاوِر، والأصل والمقابل، وثمة تموضعات أخرى لا يمكن حصرها، وتعددها رهن بخيال المبدعين أنفسهم.
ويحمل البيت، بوصفه الكون الصغير الأول للإنسان، جملة مدلولات يمكن استثمارها، عبر الانتقال من صفاته المأمولة (الاستقرار والأمن والألفة) إلى نقيضها. وقد برع القاص أحمد جاسم الحسين منذ وقت مبكّر في الإفادة من التضاد المكاني في تعميق فكرته وترسيخها في قصة (بيت)، إذ نقرأ:
"في بيتنا العربي القديم في باب سريجة الذي نذهب إليه كل يوم جمعة.. أمي تسلم على الجارات كلهن وتكثر الزيارات، وألعب مع أولاد الحارة.. في (فيلتنا) في المزة التي نعيش فيها أكثر أيام الأسبوع لا أحد يزورنا، لا أحد يسلم علينا، لا أولاد ألعب معهم".
وقريباً من هذا التصوّر يقدّم لنا القاص عماد ندّاف قصة عنوانها "بيت الجدة" وهي قصة تنوس بين الماضي ورموزه المتعددة كالفوانيس والقش الملون والسجاد من جهة، والحاضر وجدران الإسمنت والتلفزيون الملون والهاتف الذي لا يرن من جهة أخرى:
"بيت جدتي جميل جداً!
في غرفة الجلوس ساعة منبه كبيرة، وفي السقف فوانيس نحاسية…
على الجدار لوحة من القش الملون وسجادة صلاة نقشت عليها الكعبة الشريفة.. وعلى الجدار الثاني علقت صورة جدي الكبيرة، وهو ينظر إلى الأفق بعزة وكرامة لأنه شارك في طرد المستعمرين.. هناك صندوق مزخرف بالصدف.. هناك فاز قديم وسماور شاي نحاسي.. على النوافذ شناشيل.. عند المدخل.. في السقف.. الجدار الثالث.. الرابع.. الباب.. أرض الغرفة.. يا الله.. متحف! أما غرفة بيتي.. جدران من الإسمنت، وتلفزيون ملون مربوط بدش، وهاتف لا يرن أبداً ".
ويقوم نجاح القصتين السابقتين بشكل أساسي على التناقض الجوهري بين المفتوح والمغلق، فالبيت في الأولى وبيت الجدة في الثانية يحيلان على المفتوح وعلى إمكانية التواصل، أما إمكانية التواصل في الحالة المقابلة فهي معدومة؛ إذ لا أولاد يلعبون، ولا هاتف يرنّ.
فإذا ربطنا مفهومي المفتوح والمغلق بمفهوم الحرية، نتج لدينا كثير من الثنائيات التي استثمرها القاصون، فعبّرت عن القيد والسجن والقفص في مقابل الحرية، وقد نسج الكتاب تنويعات مختلفة، استناداً إلى هذه الفكرة، ويكفي أن نشير ها هنا إلى قصة "طيور ـ 1 " لفاطمة بن محمود التي تعبّر عن هلع ذوي السلطة من فكرة الحرية بحد ذاتها:
"خاف الملك من رعيته أن تتوق للحرية.. حبس كل الطيور في أقفاص.
وعندما أعياه خوفه أتى بأقفاص أخرى وحبس فيها بيض الطيور ".
وقد تطوّرت الثنائيات الفنية المختلفة باتجاه تنويعات ثيمية، تجعل منها موضوعات يمكن مقاربتها بشكل مستقلّ، على نحو المقابلة بين الـ (هنا) والـ (هناك) التي تحوّلت إلى مقابلة المنفى بالوطن، ومقابلة الأصل ومجاوره التي بنيت عليها كثير من قصص الظلال، ومقابلة المظهر بالجوهر التي بنيت عليها قصص المرايا، وهذا ما سنفصّل فيه لاحقاً.
* * *
أمّا الزمان، فقد بدا استثمار ثنائياته الضدية أقلّ تنوعاً، إذ اقتصر في الأغلب الأعم على المقابلة بين الماضي والحاضر (أو الأمس واليوم)، وبشكل قليل جداً على المقابلة بين الحاضر والمستقبل (أو اليوم والغد). وقد بدا الماضي في معظم الثنائيات الضدية أكثر دفئاً وأمناً ونقاء وبركة، في مقابل حاضر يجعل الحياة الآنية لا تطاق. ويمكن ها هنا أن نشير إلى قصة "موظف" للسعدية با حدة، التي تقول:
"بالأمس: كان يستقبل أجره الهزيل بفرح كبير.
اليوم: لما تضخمت أجرته، تعفّنت فرحته ".
ويمكن أن نشير إلى مثال آخر من أمثلة الاحتفاء بالماضي، من خلال نموذج الجدة الذي يجسّده عبد الله المتقي من خلال تحمل عنوان "دادة"، وتجعل من حضورها إيذاناً بحضور الحكي والبهاء والحنان، فيما يبدو غيابها المنتظر قفراً لا خضرة فيه. تقول القصة:
"أمّي تسرّح حبال رأسها بالزيت البلدي.. أبي يرتق بلوزته الزرقاء بخيوط بيضاء .. و.. أطلقت عمتي صرخة طويلة، ثم ملأ النواح المكان؛ بعدها قيل:
ـ دادة ماتت.
غرقت عيناي في الدموع حتى نشفت الدواة؛ وفي الليل تسللت جدتي من النافذة، تربعت على الحصير، ضمتني إلى صدرها الحامض، قبلتني كما لو مصّتني، وبعدها جمعت حكاياتها في سلة. همست في أذني:
ـ البقية في أحجياتك.
وأعلقت الباب خلفها برفق ."
وعلى الرغم من ذلك الاحتفاء الحاد بالماضي على حساب الحاضر، فقد أعطت الانتفاضة الفلسطينية، وبعض النقاط المضيئة في التاريخ المعاصر، احتفاءً آنياً بالحاضر، تجسّد من خلال قصص قصيرة جداً صورت بعض مظاهر هذا التحول. ونشير ها هنا إلى قصة بعنوان "ولادة" لمحمد غازي التدمري:
"على مفترق اللحظة الأخيرة شرب آخر قطرة من كأس المذلّة، تزنّر بالحجر، وانطلق يحتفل بالولادة الجديدة ".
* * *
وتحمل الشخصية في بعض الأحيان عبء المفارقة التي تقدّمها القصة القصيرة جداً من خلال أفعالها أو من خلال صفاتها، أو من خلال ما يقوله الآخرون عنها، ومن ذلك قصة حميد ركاطة التي حملت عنوان "في مواجهة الصمت"، والتي يحمّل فيها القاص شخصية واحدة، عبء الخروج عن المألوف السردي:
"وهو وراء مكتبه المكيّف كان سيادته مبحراً في موقع إلكتروني يقدّم عروضاً مغرية لعطل خيالية، في الخارج كان في انتظاره منذ الساعات الأولى من الصباح عشرات المتضررين من ارتفاع فاتورة الماء والكهرباء.
وحده، رجل يصير حول المكان إلى حلقة للاحتجاج، لا للفرجة ".
ولا بد لنا أن نشير هنا إلى تجربة القاص بسام شلبي الذي أعد سلسلة من القصص المتتالية بعنوان "استنساخ" يستنسخ فيها القاص في كل قصة شخصية من الماضي البعيد أو القريب، ويعدد صفاتها وأفعالها، ويضعها في مواجهة نقيضها في الحاضر، فهو يستسخ آدم وجحا وطرزان وأبا ذر الغفاري، يقول في قصته "استنساخ4":
"هرم عنترة، وشعر بالوهن يتسرب إلى شرايينه.. فقرر استنساخ رجل من إحدى خلايا صدره..
استعاد فتوته وهو ينظر إلى شعره الأسود الشعث وعضلاته المفتولة..
لكن نسيخه لم يخض أي حرب ولم يكسب أي معركة.. كل ما كان يجيده الاستعراض بالسيف أمام آلات التصوير والتشدق بأبيات الشعر الحماسية خلف مكبرات الصوت.. حزن عنترة الأصلي ومات كمداً، وعاش المزيف في الروايات والحكايات الشعبية "
وقد بنى القاصون كثيراً من مفارقاتهم التي تستند إلى إبراز تناقض الشخصيات ونفاقها، على السخرية المرّة، على نحو ما نجد عند مصطفى لغتيري في قصة "عولمة" التي تنتقد الزعيم الذي يلعن العولمة، والإمبريالية، واقتصاد السوق، ولكنه لا يتورّع، عند العطش، عن أن يشرب زجاجة كوكا كولا أمام الحشود. وها هو ذا عبد الإله الخديري الذي ينحو المنحى ذاته في قصة "واعظ" التي تقول:
"سوّى قفطانه النسائي والفزّاعة على رأسه، فانطلق محدّثاً واعظاً، حريصاً على بهاء حلته وقال: واعلموا يا أهل الإسلام أن التصوير حرام؛ هو بدعة من بدع الكفار. شرب ريقه، ووجه جلسته جهة الكاميرات، ثم عبّ من قنينة بيبسي كولا ".
وقريباً من هذا الكشف عن التناقض والنفاق لدى بعض الشخصيات التي تتستر بالدين يرصد إبراهيم ابويه نموذجاً مشابهاً في قصة يسميها "مفارقة":
"وهو يتأهّب للسجود.. سقطت منه صورة امرأة بشعرها الأصفر، علبة سجائر، دفتر شيكات، وبطاقة دعوة لحضور حفل ليلي بمنتجع خارج المدينة ".
* * *
وقد تعتمد المفارقة على الحدث، إذ يبدو الحدث (الأخير تحديداً) حاملاً لمفاجأة لا يتوقعها القارئ، ويصحو في مواجهتها على فهم جديد للنص. ومن ذلك قصة (الخلاص) لمصطفى لغتيري التي تعتمد الحدث أساساً لها، إذ يتحوّل الجلاد في طرفة عين إلى الضحية، ويحرِمُ ضحية تبحث عن الموت من الوصول إلى مبتغاها:
"أحدثت الطلقة صوتاً مدوياً، أفزع الطيور، فانتفضت هاربة.... وحدها عصفورة ـ كأنها تعاني من اكتئاب حاد ـ طارت في اتجاه الصياد، باحثة عن فرصة للخلاص.
متحسراً رفع الصياد عينيه، لمح العصفورة الضئيلة تحوم فوقه، استخسر فيها الطلقة، فتجاهلها.... لكن، حين لاحظ إصرارها، تأملها لحظة. وكأنها أوحت له بفكرة الانتحار،... وجه فوهة البندقية نحو نفسه، ثم... ضغط على الزناد ".
وثمة قصة بعنوان "موظفة" لحصّة لوتاه تجعل من الحدث الأخيرة نقطة تنوير تصنع المفارقة التي يتوقعها القارئ، ولا تتوقعها الشخصية الرئيسية، إذ يغيّر رئيس المؤسسة اتجاه الحدث تماماً، وتصبح الموظفة خارج المؤسسة التي تحرص عليها أكثر من الرئيس نفسه:
"كتبت إلى رئيس مؤسستها رسالة تطالبه فيها، انطلاقاً من حرصها على المؤسسة كما قالت، أن يعفي اثنين من المدراء من مناصبهم. فالأول، كما زعمت، يتداين كثيراً على حساب المؤسسة، مما يضعها تحت الكثير من الضغوطات، أما الثاني فقد قالت إنه سرّح ويسرّح الكثير من العاملين من ذوي الخبرة والاختصاص، ويبقي فقط المقرّبين منه، ومن هم يجاملونه في العمل، بغضّ النظر عن نوعية قراراته.
نظر الرئيس في الرسالة، مزّقها، ورماها في سلة المهملات، مستنكراً في نفسه أن تتطاول موظفة مثلها، وتنتقد أداء أبنائه.
بعدها رفع سمّاعة الهاتف، وطلب من نائبه تسريح الموظّفة ".
ولعلنا نشير هنا أيضاً إلى قصة "اعتذار" لخالد مزياني التي يحمل حدثها الأخير مفاجأة للقارئ، تجعله يعيد قراءة الحدث والشخصية مرة أخرى، لأنها تعتمد على كثير من العتبات التي يقدمها للقارئ، ليوقعه في شراك التوقع، ثم ليكسر توقعه من خلال إقدام الشخصية الرئيسية على الاعتذار المفاجئ. يقول مزياني في "اعتذار":
"يوقفها . يقرر أن يقول لها كل شيء. أن يسبّها. أن يشتمها. أن تخترق كلماته جسمها الممتلئ. أن يقتل شيطان الغرور بداخلها. أن يحطّم كبرياءها.
يتطلّع إليها في حزم. تتطلع إليه في استنكار. يجمع قواه. يقول:
أنا آسف ".
ويمكن لطرائق عرض الحدث أن تقوم بدور فعّال في إنتاج المفارقة، كالرسائل والأحلام والتداعيات، وغير ذلك، ولعلّ من الطريف أن يبني أحمد جاسم الحسين إحدى مفارقات قصصه على التضاد القائم بين الحلم والكابوس، بوصفهما مفهومين، لا وسيلتين من وسائل تقديم الحدث. يقول القاص في قصة "شكوى":
"اشتكى الكابوس لأخيه الحلم من كثرة النائمين، وملله من زيادتهم، بادله الحلم الشكوى قائلاً: قليلون الذين يستقبلونني مع أنني أقدم لهم أجمل الأمنيات!
في الليل كان الناس يتزاحمون على أبواب الكابوس ليحجزوا دوراً، فيما باب الحلم على الأرصفة بمحاذاة الشوارع ".
* * *
كما يكثر الاعتماد على اللغة، من حيث هي مفردات وتراكيب ومنظور سردي، لإنتاج مفارقات مبهرة في القصة القصيرة جداً، ففي قصة "الفاعل" لطلعت سقيرق نطالع أحد النماذج التي تقوم فيها المفارقة على فعلين متضادين هما ضحك/ بكى اللذين يبنيان نهاية هذه القصة:
"اصطف الطلاب.. دخلوا بنظام، جلسوا على مقاعدهم بهدوء، قال المعلم: درسنا اليوم عن الفاعل.. من منكم يعرّف الفاعل؟
رفع أحد الطلاب إصبعه.. وقف.. تثاءب.. قال: الفاعل هو ذلك الذي لم يعد موجوداً بيننا.. ضحك الطلاب، وبكى المعلم.. "
وفي قصة أخرى بعنوان "القرصان" يلجأ حميد ركاطة إلى إنتاج المفارقة متبعاً التقنية ذاتها، معتمداً على الفعلين ربح/ خسر لتعميق الإحساس بخيبة القرصان الذي أخفق في كسب أهم معركة في حياته:
ربح معاركه في قلب البحار والمحيطات، وخسر حربه مع المرأة التي أبحرت فجأة بداخله ".
كما تمكن الإشارة هنا إلى قصة من قصص محمد محقق التي تمتاز، في معظمها بتكثيف شديد، فهو يقيم المفارقة في قصة "تحوّل" على أساس التضاد بين مفردتي ذئب/ حَمَل، ليقدّم لنا قصة ذات صياغة مبهرة:
"اغتصبها ذئب في غابة الحياة.
وحين شبّت هجمت على أول حمَلٍ لاقته في الطريق ".
في قصة بعنوان "سؤال" لا يلجأ القاص شريف عابدين لإنتاج مفارقته إلى كلمتين متضادتين، بل إلى فهمين متضادين لكلمة واحدة، هي العبير، إذ لا يفهم السجّان أن العبير الذي يقصده السجين هو عبير الحرية. تقول القصة:
"حين بدأ يفكّ قيدي متكاسلاً، سألني متململاً:
ـ لمَ تتلهف على الخروج؟
أجبته كأنني أحلم:
ـ أريد أن أستنشق ذلك العبير.
فالتفت لي متجهّماً:
ـ أما لديك قنينة عطر، من الزيارة الأخيرة؟! "
ويمكن للتضاد أن يتعدى الكلمة الواحدة إلى كلمتين، أو إلى تركيب، أو إلى مجموعة تراكيب أو صور متوازية، ومتضادة في الآن ذاته. في قصة "بين نارين" لنعيمة القضيوي الإدريسيي تتقابل مفردتان تحملان بعداً اجتماعياً إيجابياً مع نقيضهما: ابن حلال/ ابن حرام، لترصدا حالة التناقض التي تعيشها المرأة على مذبح الانتظار الممض:
"تأنقت ونظرت إلى قوامها في المرآة، تحسست جسدها، وتمعّنت في رشاقتها وجمالها، ثم تمتمت: متى ستظل تنتظر ابن الحلال؟
في الخارج كان ابن الحرام ينتظرها في سيارته، عند الزاوية، كالعادة ".
وفي قصة "خطّان غير متوازيين" للمصطفى كليتي تبنى الحكاية على التوازي، ذلك التوازي الذي يحمل التناقض في مفرداته ومعانيه ودلالاته، وعلى الرغم من أن حكاية القصة لا تحمل صراعاً، فإنها تفترض صراعاً يبدو ذا نهاية مفتوحة، ويستطيع القارئ أن يشعر بوطأة هذا التوازي المهيمن على أحلام السلام المنشود:
حلّق سرب طائرات نفّاثة قاذفاً حمم الموت على سكان القرية الوادعة الآمنة، وحط سرب طيور على أغصان أشجار غابة ليشدو سمفونية الحياة.. ".
وربما تقوم المفارقة اللغوية على المقابلة بين أفعال محددة، وما يقابلها من مفاهيم، أي أن اللغة تكون أحد طرفي المقابلة، بينما يكون المفهوم طرفها الآخر، ولعلنا نشير هنا إلى قصة بعنوان "قيود" لسلطان العميمي التي تبنى على الفعل/ يحرس الذي يتكرر أربع مرات، لتبرهن المفارقة إن كلّ الحراسات لم تستطع أن تشكل قيداً، لأن الأحلام لا تحرسها (في المرة الخامسة لتكرار الفعل) سوى الحرية. تقول القصة:
"يحرسها أخوها كل صباح عند ذهابها إلى الجامعة.. يحرسها والدها عند ذهابها إلى السوق.. تحرسها أمها في كل حفلة تحضرها.. يحرس هو نافذة غرفتها كلّ ليلة.. وتحرس هي أحلاماً لا قيود عليها ".
كما أن ّ ثمة نوعاً آخر من المفارقة يقوم على تكرار النمط اللغوي، إذ تشكّل التراكيب المتكررة إيقاعاً رتيباً، يجهد القاص في أن يألفه القارئ، لا من أجل أن يرسّخه في ذهنه مع نهاية القص، بل من أجل أن يكسره، ويقدّم لنا نقيضه. ومن ذلك قصة "سيرة عدّاء" لعائشة خلف الكعبي التي تقول فيها:
"عندما رسب في امتحان الثانوية العامة التحق بالجيش لتمشي الحياة.
وحين ضغط عليه والده تزوج من ابنة عمّه لتمشي الحياة.
وحين فقد ذراعه عمل حارساً لتمشي الحياة.
وحين سقط إثر نوبة قلبية علم أنّ الحياة لم تكن تمشي..
بل تركض نحو خط النهاية ".
وثمة نوع آخر من المفارقات يقوم على المنظور السردي، إذ تنتج زاوية النظر شكل المفارقة ودلالتها، ولعلنا للتوضيح نشير إلى قصة "عملاق" لهيمى المفتي التي تجعل القزم عملاقاً والعملاق قزماً، بمجرد اختلاف زاوية النظر. تقول هيمى في قصة "عملاق":
"كلما وقف القزم في حديقة منزله الأرضي ليسلي نفسه بمراقبة الشارع، عاد بشعور مضاعف من التعاسة، فالناس جميعاً ـ إلا هو ـ أصبحوا عمالقة.
اقتنى منزلاً في الطابق العاشر، وأخذ ـ من شرفته ـ يمضي وقتاً ممتعاً في التفرج على الأقزام ".
ولعلّ زاوية النظر تغدو عند عماد ندّاف أكثر ألقاً وشفافية، حين يتعلّق الأمر بالنظر إلى المكان المحبب إلى قلبه، ففي قصة "دمشق" يسأله سائل عن المسافة، ويجيب هو عن المسافة أيضاً، ولكنّ لكل منهما طريقة في القياس، تسوّغها زاوية نظره إلى المدينة. تقول القصة:
"كان مسافراً في الأمصار البعيدة.. أحبوه، فتجمعوا حوله. ثم سألوه: كم تبعد الشام من هنا؟
فقال بثقة وسرعة:
- نحو ذراع!
ضحكوا وظنوه يمزح.. ثم قال قائل منهم:
- أنت تبالغ!
لكنه ألحّ قائلاً:
أينما كنت أستطيع أن أضمها إلى صدري. "
* * *
ثانياً ـ الموضوع بوصفه متّكَأً للمفارقة:
ثمة نمط آخر من أنماط المفارقة يختلف عمّا تم ذكره سابقاً؛ إذ يستند إلى التكؤات الموضوعية بديلاً عن الاستناد إلى التكؤات الفنية التي يبنى عليها الشكل القصصي، ويستطيع الباحث في هذا المجال أن يشير إلى الموضوعات الكبرى الأكثر تكراراً من خلال النماذج الكثيرة التي تم الاطلاع عليها. ولعل موضوع المقابلة بين الأصل والجوهر واحد من أكثر الموضوعات التي شغف بها كتّاب القصة القصيرة جداً، من خلال استثمار وساطة المرآة أو الظلّ أو كليهما. وليس ثمة مبالغة في الزعم أن عشرات القصص، وربما المئات، قد اتبعت هذا الأسلوب من أجل كشف الذات أو الآخر. وهذا أمر له مخاطره أيضاً؛ إذ ثمة خوف مسوّغ من التشابه في الشكل والمضمون، وثمة حاجة دائماً إلى إيجاد بدائل فنية وموضوعية تحمي من التكرار.
ويمكن أن نشير هنا إلى قصة "مطاردة" لإسماعيل البويحياوي التي تجسّد حالة فيزيائية من حالات مراقبة الذات، تستحيل إلى حالة داخلية، تجعل المرء عاجزاً عن مواجهة المرآة، تقول القصة:
"انصرفَ حلّاقي يبحث عن شفرة، وبقيت وحدي بين المرايا. في التي أمامي شعلة شعيرات بيضاء تنقشع من رأسي. في التي في خلفي. لهب يجري، يعوي، يسابق الريح. فيهما معاً. حسيس في مفاصلي، وأعمدة دخان.
أرتجف أرتجف أرتجف.
جمرات المرايا تتدلى
فوق
ر
أ
س
ي
.
.
. "
وتحمل المرآة في كثير من الأحيان ثيمة عدم الرضى عن الذات، لأسباب اجتماعية أو أخلاقية أو سياسية أو نفسية... وكثيراً ما تنتهي القصة بكسر المرآة، دون أن تسبب تلك النهاية حلاً لمعاناة الشخصية الرئيسية. ويمكن هنا أن نشير إلى قصة "تطابق" لفاطمة بن محمود؛ إذ ثمة وجه، لا بد من التخلص منه، ولا حيلة للسارد في التخلص منه، يحدّق فيه عبر المرآة:
رفع بصره ببطء فطالعه ككل مرة وجه مرهق رسم الزمن بعض الخطوط الجافة عليه، وجه اعتاد أن يطالعه في المرآة بنفس الملامح المتعبة .. بنفس النظرة الفاترة ، كم ملَّ هذا التطابق الكبير بينه وبين ذاته.. وفي لحظة خاطفة مدّ قبضته في اتجاه وجهه المنعكس أمامه.. فتطايرت قطع المرآة في الغرفة الضيقة... تطلّع إليها.. وجد وجهه قد انعكس في جميع القطع المتناثرة... "
في قصة لجمال الدين الخضيري بعنوان "العنزة والمرآة" تبدو المرآة كاشفة لكذب المرأة على نفسها، فالمرأة تكذب، وتدّعي الجمال، والمرآة تنزع القناع، لتضعها أمام حقيقتها. وأمام رفض هذه الحقيقة، كان لا بد، كما يحدث في كثير من القصص، من كسر المرآة:
"دولاب ملابسها تتوسطه مرآة ضخمة.
وقفت تتأمّل نفسها في المرآة.
قالت: جميلة أنا، وهذه مسألة لا ينتطح فيها عنزان.
لاحت لها عنزة، ولما رأت قرينتها تراجعت ودكّت الأرض بظلفها وهشّمت المرآة ".
وثمة مواجهة أخرى بين المرأة والمرآة، تقدّمها قصة "وجهة نظر" لعائشة الكعبي؛ إذ تستنكر المرآة عزم صاحبتها على تبديلها، لأنها فقدت صفاءها، فتؤكد في شجاعة الذي يجسّد الحقيقة أنها ليست وحدها من فقد الصفاء:
"حين همّت بالتخلّص من مرآتها العتيقة، صاحت بها المرآة معاتبة:
ـ أهكذا يكون جزاء من خدمك طيلة هذه السنين؟!
ـ اعذريني يا رفيقتي، لكنّ إطارك قد تآكل، وأطرافك تقشّرت، ولم تعودي بنفس الصفاء الذي كنت عليه.
صمتت المرآة قليلاً ثم اعتدلت لتواجه صاحبتها، وقالت:
ـ هلّا نظرتِ إلى الوجه المنعكس على صفحتي. لست الوحيدة التي شاخت هنا يا عزيزتي ".
في مواجهة المرآة ـ إذاً ـ تزول الأقنعة، وتظهر الحقيقة، فالمرء الذي يظهر للناس بطلاً سوياً مبتسماً، عبر استخدامه قناع الوجه، لا يستطيع ان يفعل ذلك أمام المرآة، لأنه يستطيع أن يخدع الجميع باستثنائها، وها هو ذا حميد ركاطة يكشف في قصة "دموع فراشة" وجهاً آخر للفراشة التي تحوم بين الناس في الحانة، وتوزع ابتسامتها على الجميع:
"في الحانة كانت توزّع القبلات والابتسامات، وهي محلّقة كفراشة.
أمام المرآة تنكّرت فجأة لصورتها البشعة، همّت بنزع أحمر الشفاه، فاغرورقت عيناها بالدمع، تذكرت كيف غيّر اللون الأحمر تاريخ البشرية، وأحمر شفاهها يرغمها على الاستمرار في الحفاظ على تزييف حقائقها، ويمنعها، من إماطة ولو جزء صغير، من قناعها السخيف ".
وتلفت النظر في هذا المجال قصة عنوانها "حقيقة" لسلطان العميمي؛ إذ لا يستخدم الكاتب المرآة والظلال لكشف الحقيقة، بل يجعل مرآة الحقيقة تتجسد عبر إحدى شخصياته، فالشخصية التي ستزور القرية يوم الإثنين، ستكون مرآة للجميع، حتى يروا حقيقة أنفسهم، أو حتى تنكشف هذه الحقيقة أمام الآخرين. وفيها دلالة قوية حول براءة الأطفال الذين لم يتلوثوا بعد بأخلاق الكبار. تقول القصة:
انتشرت إشاعة قوية بأن عّرافاً يفضح الكذّابين سيزور قريتنا يوم الإثنين..
وفي صباح الإثنين..
خلت الأسواق ودور العبادة والمرافق الحكومية من الناس تماماً..
وكان الأطفال يلهون وحدهم في القرية ".
وتتحوّل المرآة في بعض الأحيان إلى محفّزٍ من محفزات الحدث، على نحو ما نجد في قصة "ابنة العم" لفاطمة محمد الكعبي. فالمرآة تكشف عن تحوّل الصبية الصغار إلى شباب وصبايا، مما يستدعي إقامة الجدران بين أولاد العم الذين تفرض عليهم ظروف المجتمع وتقاليده هذا الافتراق، وتحرمهم من حرية كانوا ينعمون بها في ظلال الطفولة. تقول القصة:
"وقفَ أمام المرآة مزهواً بالزَّغب الخفيف فوق شفتيه، وبلحيته التي بدأت تحتفل برجولته، وصوته الذي أعلن بخشونة مبكّرة ميلاد رجل، وراح يتفنن بلفّ الغترة على رأسه مطلقاً صفيراً فرِحاً تخيّله قرع طبولٍ يوم عرسه، وتخيّلها وقد أطرقت برأسها حياءً.
بعدها بأيام تبيّن له أنّ ابنة عمّه لا تأتي إلى بيتهم، كما كانت تفعل منذ صغرها، وأنّ عمه بنى جداراً إسمنتياً بين المنزلين، وصار يسمع بكثرة: بناتنا كبرن، وأولادكم شباب ".
وقد تتحول المرآة عند بعض القاصين إلى شخصية فاعلة، تشارك في الحدث وتغيّر اتجاهه، وتعبّر في بعض الأحيان عن رضاها أو سخطها أو غيرتها، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "نطق" لجمعة الفاخري التي تجعل المرآة تحطم نفسها غيظاً في حضرة الجمال الآسر.
"فاضت المرآة بوجهها.. ازدانت الغرفة بالضوء.. استدارت.. خلعت فستانها.. شهقت المرآة.. تهشّمت.. نطق الصمت الأخرس..! "
وإذا كان جمال المرأة في القصة السابقة هو الذي سوّغ تحطم المرآة الغيورة، فإنّ المرآة في قصة "figures" تحطم نفسها، بسبب حالة الملل وعدم الرضا، من تكرار الوجه الذي تراه، ومن خلال صدأ روحها الذي يجسّده عدم اهتمام الرجل بتنظيفها المستمر، حتى يجدّد حياتها وحياته:
"نظّف وجهه وعينيه، ونظر في المرآة.
لم تنظف المرآة وجهها وعينيها.
اندهش الرجل الملتحي، تساقطت المرآة، وتشظّت وجوهاً متعددة لوجه واحد، الوجه الملتحي الذي كان قبل قليل أمام المرآة ".
* * *
وقد استثمر القاصون في عدد لا بأس به من قصصهم القصيرة جداً فكرة التناقض بين الأصل وظلّه، بديلاً للتطابق المفترض، من أجل تقديم مقولات تقترب كثيراً من المقولات التي يتم تقديمها عبر استثمار المرآة. ويسعى مثل هذا الاستثمار إلى كشف المستور من خلال إبراز ذلك التناقض. ولا يمكن هنا أن نتخيّل قصة قصيرة جداً تدور حول حالة تطابق بين المرآة وما تعكسه، وبين الظل والأصل، لأن مثل هذا التطابق لا يصلح لبناء مفارقة تقوم أساساً على الاختلاف.
وفي قصة "ظل" يستثمر المقابلة بين الأصل والظل، لإحداث مفارقة ما، فيقدّم قصة لطيفة عن الظل الذي تلوّث، ولكنه كان قابلاً للتلميع، مثل سيرة صاحبه:
"تفقد الرجل ظله، فلم يجده.. عبثاً بحث عنه في كل مكان.. فجأة تراءى له ملقى في القمامة.
متلهفاً، دلف نحوه.. التقطه.. لمعه جيداً.. ثم ألصقه به من جديد ".
وثمة قصة طريفة بعنوان "ظلال" لإبراهيم ابويه تفيد من كلمة الظل، لتجعل منها إيقاعاً قصصياً، يكشف حالة الخداع التي تمارسها الظلال في كل مكان، دون أن تجد من يقبض عليها بحالة التلبّس، لأنها مجرد ظلال، تتسرب من بين فروج الأصابع:
"في بلدي لا يمكن أن تجد شيئاً بلا ظل: حكومة الظل.. وزارة الظل.. ظل الله على الأرض.. نقابة الظلّ.. ثقافة الظلّ.. ويمكن للظل أن يتنقّل من شخص إلى آخر على سبيل الإعارة: قامة قصيرة بظل طويل، ظلال تبحث عن أصحابها، ملفات بظلال كثيرة، إعلام يلقي الظل على جريمة اختلاس دون أن يجد صاحبها.
انتبهوا إلى ظلالكم وقيسوا طولها وعرضها، فقد يلتصق بكم ظلٌّ لكائن آخر، وتصبحون في ضلال مبين ".
* * *
ويشار إلى أنّ القاص يمكن له أن يلجأ إلى إنشاء المفارقات الثيمية في القصة القصيرة جداً، من دون الاستناد إلى المرآة أو الظل أو غير ذلك، إذ يضع المفهوم في مواجهة نقيضه الذي يبرزه القاص، أو يفترضه خيال القارئ، أو تقتضيه طبيعة الحياة المتناقضة، ولعلنا نشير أولاً إلى المفهوم الذي تطرحه فاطمة بن محمود في قصتها "أمل" التي ترصد شخصية حفار القبور التي تحمل، بحد ذاتها، تناقضاً صارخاً؛ ذلك أن فرحه بالرزق يعني موت الآخرين. إنه يقطف بسمة أطفاله من دموع الناس، وينام كل يوم على أمل أن يأتيه رزق جديد(!!):
"حفّار القبور انتظر يومه الثاني، ولم يدعه أحد لحفر قبر، لو صغير... تألم كثيراً لغياب الحركة في المقبرة، فهو يريد أن يشتري الفرح لعائلته!
مرّ النهار... جمع نفسه بتثاقل وأقفل عائداً يحدوه أمل أن يكون الغد أفضل، فيفتح قبوراً كثيرة... ".
ويمكن هنا أن نشير إلى مثال آخر لسلطان العميمي الذي يفيد من التقابل بين مفهومي الغنى الباذج والفقر المدقع لبناء قصة قصيرة ناجحة، بطلها "ماهر الحاذق" الذي يستغلّ كل مهارته وحذقه ليقدّم في قصته نقائضَ ذاتَ دلالات وارفة:
"افتتح وزير الفنون، وعدد كبير من وجهاء البلد، المعرض الذي أقامه الفنان التشكيلي ماهر الحاذق في أرقى صالة عرض في العاصمة، عارضاً فيه مجسّمات فنية بديعة، شكّلها من مخلفات قمامة الأحياء الفقيرة ".
وهناك تناقض آخر يقيمه القاصون، يفيد من ثوابت المجتمع المثالي الواقر في الذهن، وهو يُحدث المفارقة المنتظرة من القصة القصيرة جداً في ذهن القارئ بين الواقع السردي، والمفترض المثالي. ومن ذلك المفارقة التي يقيمها حميد ركاطة في قصة "من خلف الستار" بين ما يقوم به الموظف، وما يفترض أن يقوم به:
"نهض متأخراً، احتسى قهوته واقفاً قرب دكّة المقهى، حمل كومة من صحف مستعملة وبعض صفحات من الكلمات المسهمة، ثم توجّه إلى العمل في انتظار أجرته الشهرية ".
* * *
في الختام لا بد لنا أن نؤكد أمرين: أولهما: أنّ عدم اعتماد السرد على المفارقة يحول القصة القصيرة جداً، في رأينا، إلى حالة سردية غير جديرة بالانتماء إلى هذا النوع السردي، وثانيهما أنّ المفارقة التي تعتمد الطرفة غير الموظفة تجعل القصة القصيرة جداً نكتة سمجة.
نشير أولاً إلى مقطع سردي، عنوانه "الشيطان الأزرق" تنسبه السعدية با حدة إلى القصة القصيرة جداً، غير أنه عند التدقيق يبدو حالة سردية، لا تحمل تحوّلاً تفترضه الحالة القصصية الناجحة، ولا تحمل ردّ فعل تجاه فعل سردي، يخلق اتجاهاً مغايراً للأحداث، ويحرم القارئ من متعة وتشويق تولدهما مفارقة منتظرة:
"فجأة بزغ الشيطان على خشبة المسرح يخرّب.. يدمّر.. ييتّم.. يبعثر لعب الأطفال.. يغتصب الأزهار.. يجذّر الأشجار..
المتفرجون مندهشون، بين ناكر ومستنكر يتهامسون.
قهقه الشيطان لانتصاره، لملم عتاده، بصق على المتفرجين، وغادر المسرح ".
أما بالنسبة لعلاقة المفارقة بالتنكيت فلا بد من التنبيه على أن المفارقة قد تستدعي السخرية، وقد تستدعي الإضحاك، ولكنها سخرية النقد اللاذع، والإضحاك الذي يعمّق الإحساس بالواقع أو بالجمال. وإن الاستثمار غير الموفق للمفارقة التي تسعى إلى مجرد الإضحاك يحوّل القصة القصيرة جداً إلى مجرد نكتة، قد تقوم على لعبة لفظية، أو فكرة قريبة المتناول، تستطيع أن تجلب لك ابتسامة سريعة، لا يدوم تأثيرها، ولا تنتقل فاعليتها إلى زمن آخر. ويمكن هنا أن نشير إلى قصة "تورية" للقاص محمد غازي التدمري التي يلجأ فيها إلى التنكيت الذي يفرغها من أي محتوى ذي أهمية:
"على المنبر قدّمه واحداً من أكبر شعراء الوطن العربي.
في الردهة سأله أحدهم: ألم تكن كاذباً.
ابتسم وقال: لا.. فأنا أقصد أكبرهم سنّاً ."
كما تمكن الإشارة كذلك إلى توظيف النكتة البسيطة التي تنجح، أو قد لا تنجح في إضحاك القارئ، من خلال مثال للقاص جمال الدين الخضيري، إذ يقدّم في قصة "احتفاء" نموذجاً للمفارقة التي تقوم على مجرد التنكيت:
"قرية دامسة، لا تنيرها إلا شمس النهار. عندما زوّدوها بالكهرباء زرنا أهلها مهنئيهم بهذا الفتح المنير. باحتفاء قال لنا كبيرهم وهو يفسح لنا مكاناً في مجلسهم:
ـ اختاروا أيّ الأمرين تريدون، أنقدّم لكم شاياً أم نشعل لكم المصباح الكهربائي ؟".
تبقى الإشارة إلى أن التمثيل بقصة ما، لكاتب ما، لا تتضمن حكماً على تجربة القاص برمّتها، بل تحاول أن تبدي رأياً في قصة محددة. ولعلنا نشير هنا إلى براعة الالتقاط عند عماد ندّاف، وشفافية اللغة عند فاطمة بن محمود، والقدرة الفائقة على التكثيف عند محمد غازي التدمري ومحمد محقق، وسلاسة اللغة السردية عند جمال الدين الخضيري، وهذه إلماحات يحتاج تفصيلها إلى دراسات أخرى قادمة إن شاء الله