سنة 1958 - أممت أندونيسيا المصالح الهولندية في أراضيها سنة 1973 - أصدرت الأمم المتحدة قرارات معاقبة مجرمي الحرب، ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية سنة 1987 - وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 129 صوت، على عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط سنة 1990 - سقوط العاصمة الصومالية "مقديشيو" في يد المتمردين ضد حكم الرئيس الصومالي سيادبري سنة 1966 - وفاة المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي. سنة 1920 - أرمينيا تنضم إلى الاتحاد السوفيتي. سنة 1921 - تولى جعفر والي باشا رئاسة الاتحاد المصري لكرة القدم. سنة 1967 - استطاع الطبيب كريستيان بارنارد من جنوب أفريقيا أن يزرع قلب إنسان في إنسان آخر لأول مرة في التاريخ. سنة 1971 - قامت الهند بشن غزو عسكري ضد باكستان وتمكنت من احتلال باكستان الشرقية. سنة 1992 - سمح مجلس الأمن للولايات المتحدة بقيادة عملية عسكرية عاجلة في الصومال.
أحمر صاخب لعماد أبو حطب : لقطات إنسانية في حُلّة حكائية قشيبة
كُتب بواسطة: د. يوسف حطيني، ونُشر بواسطة:
أبابريس شوهد 2142 مرة، منذ تاريخ نشره في 2013/08/09
عندما أنتهي من قراءة عمل ما، ويستثير ما فيه من محتوى أو بنية فنية شهوة الكتابة لديّ، أنطلق من الانطباع العام الذي يتركه هذا العمل في روحي، وبهذا المعنى فأنا أكتب انطباعي الذاتي حول ما أقرؤه، بالاستناد إلى الثقافة التي حصّلتها على مدى سنوات القراءة والكتابة، فالنص النقدي الذي أسعى إليه ليس انطباعاً خالصاً، وليس مسطرة نقدية تقيس النص الإبداعي.. إنه منزلة بين المنزلتين، تغمّس الثقافة بماء القلب، ليصبح النص أكثر قرباً من القارئ. ألفت النظر إلى هذا الأمر، وأنا بصدد قراءة مجموعة قصص قصيرة جداً، بعنوان (أحمر صاخب) كتبها القاص الفلسطيني عماد أبو حطب، وصدرت مؤخراً عن دار العين في القاهرة، وعلّة ذلك التمهيد أنّ أكثر ما انطبع في ذاكرتي حول هذه المجموعة هو الميل الحاد لمعالجة عقابيل الربيع العربي انطلاقاً من رؤية سياسية تُفرض على كثير من النصوص من خارجها. تبدو مجموعة (أحمر صاخب) حمراء تماماً وصاخبة تماماً؛ إذ تعرض في كثير من نصوصها مفاصل إنسانية، وتنتصر لطرف على حساب طرف آخر، وكم كنت أرجو من القاص أن ينتصر لفكرة على حساب فكرة أخرى، وأن يكتفي بالانتصار للأفكار الإنسانية، وهو الفلسطيني ابن الفكرة الإنسانية النبيلة التي اغتيلت على مدى قرن من الزمان، أو يزيد، فهو ليس مضطراً أن يحدّد موقفاً كلاسيكياً مما يسمّى بالربيع العربي (مع أو ضد)، بل من المنتظر منه أن يجترح لنفسه موقفاً إبداعياً: أن يكون مع المقاومة (وليس مع القمع)، ضد الإرهاب (وليس ضد المعارضة)، وفي هذه الحالة سينتقل بنصه من (النص التكتيكي) إلى (النص الاستراتيجي). ومن نافل القول أن الأدب يختلف كثيراً عن السياسة، فالأدب لا يعرف التكتيك، وليس لأيّ أديب فلسطيني، مهما علا شأنه أو انخفض، أن يتغزّل بحدود 1967، أو باتفاق غزة وأريحا، بخلاف السياسي الذي يقيس أرضنا الفلسطينية شبراً شبراً.. لقد قرأت كثيراً من القصص القصيرة والقصص القصيرة جداً، فوجدت أنها تنزع إلى عدم تحديد الزمن والمكان، لا هرباً من مساءلة، بل انتصاراً لتعميم الفكرة التي يدافع عنها المبدع، فالمبدع عادة يبتعد عن كلمة الرئيس أو الملك ليضع مكانها كلمة أخرى (الزعيم مثلاً) ليعمم رفض فكرة الطغيان أياً كان مصدرها، مثلما يبتعد عن تحديد المكان، خاصة حين يتعلّق الأمر بمجازر لم تجفّ دماءها بعد، وبياسمين يصطبغ بياضه بدماء الضحايا، دون أن يتثبّت الناس في المواقف المتعارضة من حقيقة ما يجري في بلادهم، بدليل تمترس كل منهم وراء موقفه. ولست بطبيعة الحال ضد الربيع الأخضر (!!) ولكن الانتصار للربيع العربي كان ينبغي أن يسبق هذا التاريخ بربع قرن من الزمان، حين قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهي أنصع مثال على ثورة شعبية سلمية لم تلق الدعم العالمي، بينما يتلقى أي ربيع عربي في أية بقعة أخرى غير فلسطين الدعم بكافة أنواعه. * * * بعيداً عن السياسة والمواقف الحادة التي قسمت ظهر الأمة، فإنّ مجموعة (أحمر صاخب)، تجسّد من حيث البنية الفنية، في معظم نصوصها رؤية متقدمة لبناء القصة القصيرة جداً، إذ تنجح أولاً في امتحان التكثيف الذي يخفق فيه كثير من الكتاب، أو ينجحون فيه على حساب ضياع الدلالة، ويمكن أن نشير هنا إلى عدد من القصص التي ينجح القاص في اختزال أحداثها ولغتها إلى الضروري الممكن، من مثل قصة "سر[1]" وقصة "ألم[2]". ولعلّ قصة "حسد" أن تكون واحدة من أنصع الأمثلة على التكثيف المدهش الذي يجسّد رؤى قريبة وبعيدة لمشاعر متناقضة تعصف بقلب الإنسان: "بعد جز عنق الطفلة...نظر الجندي الى حذائها، بحسد[3]". ترى أكان هذا الجندي متوحشاً إلى درجة يرى فيها حذاء الطفلة، ولا يرى دماءها؟؟ أم أن حذاءها قد طوّحت به نحو طفولة بعيدة، ونحو براءة يفتقدها، فاختلطت المشاعر داخل صدره؟؟. وفي قصة "أقنعة"، ثمة قدرة مدهشة على التكثيف؛ إذ تقول الحكاية كل ما لديها، من خلال أحداث مختزلة تتجه بالحكاية نحو نهايتها دون تعثّر، تلك النهاية التي تجعل (الأنا) بطل هذه القصة مختلفاً عن الآخرين: "في الشارع سارت مجموعة من المتظاهرين دون وجل،فقد ارتدوا أقنعة محكمة لا يمكن معرفتهم عبرها،سرت فيما بينهم ،على حين غرة أحاط بنا رجال الأمن ، لم يرتبك أحدا منهم ،نزعوا أقنعتهم. تعرفوا على بعض سريعا وتبادلوا القبل والأحضان،الا أنا فقد كنت المقنع الخائف الوحيد بينهم[4]". وهذا الأنا لا يبدو مختلفاً فقط لأنه كان الخائف الواحد، بل لأنه كان بطلاً متكلّماً، في حين أن هناك ميلاً حاداً لاستخدام ضمير الغائب في القصة القصيرة جداً، وما ذلك إلا لأنّ حديث الأنا يحتمل في كثير من جوانبه اعترافات ورؤى ينوء فن القصة القصيرة جداً بحملها. وتنجح قصة "كاميرا تسجيلية" من خلال تكثيفها الشديد في تقديم واحدة من أجمل القصص القصيرة جداً في هذه المجموعة، ويعود جزء كبير من أسباب نجاح هذه القصة إلى اعتمادها على التعميم، ودفاعها عن مفهوم الشهادة بحدّ ذاته، فالشهادة عند عماد أبو حطب، ليست بحاجة لشاهد، لأنّ الشاهد هو الشهيد: "بعد أن ارتوى شيطانهم من دماء الضحايا تطلعوا ذات اليمين وذات الشمال.حين اطمأنوا الى أن لا أحد يراهم بدأوا في الرقص حول القتلى، لكن عينا الشهيد كانت تسجل المذبحة[5]". * * * لقد جرّب القاص أن يقدّم حكايات قصصه وفق مسارب متعددة، فاعتمد التعاقب حيناً، والتوازي حيناً آخر، بينما انطلق من فكرة الدائرة المغلقة في تقديم عدد من البنى الحكائية: ففي قصة "بحث" على سبيل المثال يرتّب القاص أحداث حكايته جملة جملة، يتحرّى آثار القصف على منزل الصغيرة التي تتفقد أهلها وضحاياها، قبل أن تتفقد نفسها، وتكون النهاية الصادمة: "أفاقت الصغيرة على دوي القصف، كان الصوت يهز المنزل،كل ما حولها دمار وأنقاض... أزاحت الركام من حولها وبدأت بالصراخ على والدتها... والدها... دون جواب... بحثت عن والديها من حولها... بحثت عن لعبتها المفضلة.... ولما يئست من إيجادهما بدأت بالبحث عن ساقيها اللذين سرقهما الانفجار[6]". وإذا كانت هذه القصة تعتمد فواصل زمنية قصيرة بين أحداثها، فإن قصة أخرى تسلك المسلك ذاته، وتعتمد فواصل أكثر طولاً واتساعا: إنها قصة "صفحة مهمة"، حيث الفواصل عقود من الزمن، تحكي اختلاف النظرة نحو الموت باختلاف تواليها، وتوظّف لغة تعنى برصد الانفعالات الداخلية للبطل: "في العشرين من عمره كان يسخر من كل من يطالع صفحة الوفيات، حينما أصبح في الخمسين باتت الصفحة مصدرا للاطمئنان على أصدقائه، اليوم باتت أهم صفحة في الصحيفة فهي تطمئنه كل يوم أنه مازال على قيد الحياة[7]". وينحو القاص المنحى ذاته في قصة "استسلام"[8] وفي قصة "قمباز" التي أرى فيها نموذجاً فذّاً للقصة الفلسطينية المقاومة التي تطرح الذاكرة سلاحاً لا يصدأ في مواجهة المعتدي، فهو يبدأ من جملة تحكي حالة، لينطلق إلى جملة تحكي حالة أخرى، وهكذا حتى يكاد المرء يظن أنه أمام "حالة" لا أمام حكاية.. غير أن القاص ينجح بضربة واحدة، في تحويل الحالة إلى حكاية ناجحة جداً، ويستطيع من خلال جملة واحدة أن يضيء النهاية، محققاً ما يدعوه النقاد (لحظة التنوير) في أبدع نسج لغوي حكائي: "الختيار بقمبازه وحطته.الجدة بثوبها المطرز بأيات كنعانية.الشاب ذو الوشم البارز على الذراع والناطق بأحرف من نور برزت لتكون فلسطين.الفتاة الممسكة بخارطة تدلت من عنقها منذ الولادة بوصلة نحو الشمس.الطفل الممسك بطابو بيت جده الأكبر والمبتسم لطفلة لم تتعلم من الأحرف إلا: ف ل س ط ي ن ...الجميع يرنو إلى ما وراء الأسلاك الشائكة[9]. ويلاحظ أن القاص يجتهد في تنويع النهايات التي تفيد من الكلمة الأخيرة أو الجملة الأخيرة لإحداث الصدمة، وتحقيق لحظة التنوير، ولكنه يلجأ في بعض الأحيان إلى ترك النهايات مفتوحة، تغذّي خيالات القارئ بسيل متدفق من الاحتمالات، على نحو ما نجد في قصة "ميراث": أورث جدي والدي دفترا...أما أبي فقد أورثني قلما...وما زلت حائرا ماذا أفعل بهما[10]. ويعدّ التوازي طريقة أقلّ إثارة لعناية القاص؛ إذ قلّما يعتمد هذا الشكل الحكائي، وتعتمد هذه الطريقة على تقديم حدثين متشابهين (أو أكثر) يسيران في الطريق ذاته، ويتحدان من ثم ليقدما إجابة نهائية. ويمكن أن نشير ها هنا إلى قصة "خيانة" التي يوظف فيها القاص الحلم توظيفاً ناجحاً، ليصبح جزءاً مهماً وفاعلاً في الحكاية ذاتها: "في أحلامه شاهدها برفقة ذاك الرجل الوسيم. في أحلامها شاهدته يضاجع تلك السيدة الجميلة. في الصباح، تبادلا نظرات الاتهام بالخيانة[11]". وفي قصة "موت طفل" يتكرر موضوع الموت مرتين، يحضر السؤال في الأول، والجواب في الثاني، حيث يقود التكرار إلى لحظة النهاية التي تدين عسف الطغاة: "سألني طفل ما هو الموت؟ لم أعرف كيف أُجيب. في اليوم التالي.... خبر الطفل الجواب... الجلاد قصف عمره[12]". أمّا الدائرة التي تعدّ أكمل الأشكال الهندسية، فإنها تبدو خياراً معقولاً للقاص في بعض حكاياته، لأنها تناسب الموضوع الذي يكتب عنه شكلاً ومضموناً، فثمة في حياته دائرة النفي التي تحيط به، وثمة في قصصه دائرة الموت ودائرة القمع وغيرها، لذلك فإن تجسيد الدائرة، بشكلها الفني (حيث نقطة النهاية هي نقطة البداية) يظهر نتيجة من نتائج الرؤية. ولعلنا نشير هنا إلى قصة "قناص"، إذ ثمة التفات لغوي وحكائي يعيد النهايات إلى بداياتها: "قبل أن يخلي نافذته للقناص الصغير أعاد عليه الدرس من جديد: لا تدع أي خيال يفلت من منظارك...صوب وأَرْدِهِ أرضاً. هبط الدرج مسرعاً.وما أن وصل الى حافة الطريق سمع وهو يلتفت نحو النافذة مودعاً أزيز الرصاصة قبل أن تخترق جمجمته وتصيب منه مقتلاً[13]". حتى إنّ البنية الحكائية ذاتها انتقلت شكلاً لا مضموناً إلى عدد آخر من القصص، من مثل قصة "حسناء أرملة" حيث تدور الأيام، مثلما تدور الحكاية، وتتحول الحسناء من مشروعٍ وارثٍ إلى مشروعٍ موروثٍ، وتصوغ جزءاً من حكايتها كما تشاء، لتأتي شخصية أخرى، لتصوغ الحكاية ذاتها، بخلاف ما ترجوه الشخصية الأولى، من خلال لغة تشي باستسلام تامٍ من قبل الأرملة لهيمنة تلك البنية: "كنت صغيرة السن، لم أتجاوز السادسة عشرة حينما تم بيعي إلى كهل مسن ثري، فارق العمر بيننا كان أكثر من خمسين عاماً. أعواماً طويلة لم يكن يجمعني به الا حساب رصيده وانتظار موته لأنعتق من سجني وأنا ثرية. حين توفى حزنت عليه لكني بدأت في الخروج من انغلاقي، باحثة عن حب يعوضني ما تسلل من سنوات حياتي. سرعان ما أحببت ثم تزوجت شاباً يصغرني بثلاثين عاماً، ألمحه اليوم يراقب الأيام وحسابي البنكي بلهفة[14]". ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ ثمة روافع كثيرة للحكاية يحسن القاص توظيفها من مثل تنويع أشكال النهايات وقلب الوظائف الاستعاري وتوظيف الأحلام والكوابيس، والاعتماد على لغة تحيل على خيال تأليفي خصب، وتنهل من الحواس المتداخلة فيما بينها، على نحو ما نجد في قصة "هراوة" التي تقيم حالة صراعٍ بين اللوحة والرسام: "نظر الرسام الى لوحة رسم فيها صفا حمل فيه الأستاذ خيزرانة، أحس بالقمع ،اندفع نحو اللوحة. مسح الخيزرانة ورسم بدلاً منها قلماً. ما أن انتهى واستدار حتى كانت عشرات العصي تنهال عليه من كل حدب وصوب[15]". وفي قصة "عواء" ثمة تبادل طريف للوظائف بين السجين والسجّان؛ إذ يبدأ السجّان بممارسة وظيفة السجين (العواء تألماً) حين يفقد الأخير تحت التعذيب قدرته على التعبير عن الألم، ويصبح صمته عن وجعه دليل إدانة لعجز السجان ذاته: "في المعتقل، فقد المسجون صوته. أصبح أخرسَ. ارتعب الجلاد. إن لم يصل صوت الألم للأعلى سيقيد مكان كومة اللحم المكومة. أخذَ السجانُ يصرخ ويعوي بدلاً من الضحية[16]". كما أفاد القاص من الأحلام في أكثر من قصة، غير أن تلك الأحلام كانت مجهَضَة دائماً بفعل القهر والتسلط والفقر. ولعلنا نشير هنا إلى قصة "أحلام ضائعة" التي تجعل الحلم كائناً حسياً مادياً يضيع مثلما يضيع كل شيء، بسبب رقعة في الأسمال التي يرتديها الحالمون: "منذ أن بلغ الرشد، وأمام صعوبات الحياة، تعوّد كلما حلم حلماً ،أن يقبض على الحلم، وبحرص يدسه في جيب سترتة البالية. مرت أربعون عاماً والأحلام تتكدس في جيبه. الليلة فقط قرر أن يستخرج أحلامه المجمعة ليحييها. ما أن مد يده في السترة حتى خرّ باكيا...لقد اكتشف أن الأحلام قد تسربت من ثقب كبير احتل أسفل جيب السترة البالية[17]. كما استثمر القاص الألوان الحادة في قصصه، ولا سيما اللون الأحمر، ابتداءً من العنوان (أحمر صاخب) ومروراً بقصص متعددة تحيل في مجموعها على الدم المسفوك، في حين اختفى اللون الأخضر من المجموعة، مما يشي بطغيان حالة التلبس التي يعاني منها الشاعر في ظلّ الوضع العربي. ومن ذلك قصة "خط أحمر" التي تصبغ الوطن كله بلونها النازف: "وقف الممثل العظيم صارخاً في المسرحية: الوطن خط أحمر، نظر المتفرجون من حولهم، فإذ بالدماء تغطي كل مكان[18]. ومن ذلك أيضاً قصة "عباد الشمس" التي تصبّ كل ألوانها أخيراً في اللون الذي يغزو مخيلة القاص بلا هوادة: "طالما أعجب الرسام بلوحة عباد الشمس، أحب أن يقلدها. حضر ألوانه الزاهية، فرشاته، قطعة القماش البيضاء، وانهمك في تخطيط اللوحة. سبحان الله، كأنها اللوحة الأصلية. بدأ في تلوينها. كان المرج يشع نورا. حينما انتهى حمل اللوحة، ووضعها على التلة المحيطة بالمدينة ليتأملها. غفل عنها قليلاً. ما أن استدار لينظر اليها مزهواً حتى كانت اللوحة غارقة في لون أحمر قانٍ. لقد فاضت المدينة بدم القتلى، ولم يعد سهلها مضيئا كالشمس[19]". * * * ويتّكئ القاص عماد أبو حطب في صناعة مفارقته القصصية في (أحمر صاخب) على دعامتين مألوفتين جداً في مجال القصة القصيرة جداً، هما المرآة والظل، وإذا كانت المرآة يقتصر حضورها على عدد قليل من النصوص لا يبلغ أصابع اليد الواحدة، فإنّ حضور الظلّ كان بارزاً بشكل كبير. وإذا كان كلٌّ من الظل والمرآة يمثّل وقفة للشخصية أمام ذاتها، فإن الميزة التي توفرهما هاتان الوسيلتان هي كونهما وسيلتين خارجيتين قادرتين على وضع تلك الذات أمام الآخر. في قصة "مرآة عجيبة" يرفض الرئيس صورة نفسه في المرآة، فيعيد تشكيل المرآة بعد كسرها على مقاسه، ليعيد من ثم التجربة ذاتها على الوطن، وفي قصة "عبوس" ترفض المومس التي تمثّل السعادة أمام الآخرين صورة وجهها فتغيّرها، لتصبح أكثر قبولاً: "في الزاوية المعتمة ،أخرجت المومس مرآتها وشذبت عبوس وجهها[20]"، بينما تدعو قصة "شبح" من خلال توظيف المرآة واللوحة والشبح في الانتصار لفكرة التواصل، حتى لو لم يكن تواصلاً حقيقياً: "تسمرت المرأة أمام اللوحة. امرأة تمد يدها لكرسي فارغ.تدعو شبحا لمشاركتها العام الجديد[21]". وقد قام الظلّ بدور بارز في عدد معتبَر من النصوص، على نحو ما نجد في قصة "مجندة"[22] و"حرية[23]"، وكان هذا الحاضر الغائب أكثر حضوراً في معظم الأحيان من الشخصية ذاتها، ويمكن أن نستعين هنا بقصة "هتاف ظل" التي تصوّر حالةَ صمودِ ظلٍّ بعد هروب صاحبه من المعمعة: "سارا معا منذ أن ولد .ظله وهو. إلا يوم أمس. لقد فرّ من المظاهرة خائفاً ما أن سمع صوت إطلاق النار وأجساد الشهداء في كل مكان، بينما بقي ظله في الشارع يهتف للحرية[24]". ويدرك القاص أن لا فضلَ لهُ في أن يرصد حالة طبيعية للظل، فيسعى من خلال خياله الفني على كسر تلك العلاقة الفيزيائية بين الاثنين، لصالح علاقة أعمق دلالة. ويمكن أن نستشهد بقصة "ظل وجسد" للتدليل على الخروج من تلك العلاقة: "اليوم سجي جسدي في القبر. تأملت من حولي، فاذ بظلي خارج القبر. الشيخ يلقنني المعوذتين وظلي يتمتم من ورائه. ناديته فأعرض عن النداء. مع أول حفنة تراب ألقيت فوقي سارع ظلي اللعين لتلقي العزاء في جسدي[25]". * * * غير أن ثمة عدداً محدوداً من القصص عانى من جنوح الحكائية نحو الطرفة، بينما جرحت عدداً آخر لغةٌ ذهنيةٌ جافة، فيما عانى عددٌ أكبر من القصص، من طغيان الشعرية على الحكائية، وأنتج نصوصاً تخرج من مجال القص إلى قصيدة النثر. فهناك نصّان في المجموعة القصصية يجنحان نحو النكتة التي لا ترقى إلى جدارة القص، بسبب محدودية الدلالة، أحدهما يحمل عنوان "موعد جنسي[26]" إذ يكتشف البطل أن أنثى الفيسبوك هي صديقُهُ فادي، وثانيتهما "مظاهرة خاطئة" ندع السرد يحكيها للقارئ الكريم، لنلاحظ كيف أخرج القاص فكرته المهمة إلى مجرد طرفة غير مضحكة: "في الأول من أيار، وكعادته، تناول العلم الأحمر وخرج مسرعا للتظاهر. سار في الشارع الرئيسي. كان العمال مختلفين عما عهدهم ، لم يعودوا يهتفون َضد الرأسمالية. لا يرفعون راياتهم الحمراء. يرتدون ثيابا غريبة فاقعة. يلونون شعورهم بالأحمر والبنفسجي. معظمهم من الشباب. دبّ الحماس به ورفع العلم الأحمر وصرخ بحياة الطبقة العاملة. انتبه من استغراب المتظاهرين.حينما دقق وجد نفسه في تظاهرة للمتحولين جنسيا، أما العمال فلم يجد لهم أثرا[27]". أما اللغة الذهنية التقريرية التي تحكم عدداً محدوداً من القصص، فهي تأتي نتيجة طغيان الفكرة على حساب اللغة، ويختل عند ذاك توازن النص لصالح الخطابية، وعادة ما تتسرب تلك الخطابية إلى النص حين يصرّ القاص أن يفصّل قصةً على مقاس فكرة ما، فيقود النص إلى نوع من اللغة الجافة، على نحو ما نجد في قصة "أحمر حتى النخاع[28]" وقصة "احتفال[29]"، أو يقوده إلى الغموض، على نحو ما نجد في قصة "غناء[30]" ويمكن هنا أن نورد قصة "نيوتن" للاستشهاد على خلو القصة من مسحة اللغة الأدبية، على الرغم من نبل فكرتها: "قرأ الطالب الغزي عن نظرية نيوتن. كان يتأمل السماء؛ لعل الله يهديه الى كشف سر الكون وتسقط عليه تفاحة من الجنة. فجأة سقط على رأسه صاروخ مزقه الي ألف قطعة تناثرت في السماء[31]". أما طغيان الشعرية على حساب الحكائية، فله في نصوص عماد أبو حطب أمثلة كثيرة، وكأنّ هذه النصوص تصلح تماماً لتوضيح الفرق بين القصة القصيرة جداً (مهما بلغت لغتها من الشعرية والتصويرية) وبين قصيدة النثر. فالحكاية شرط كلّ سرد، وأي نصّ يفتقر إلى الحكاية يخرج من السرد، دون أن يفقد بالطبع قيمته الأدبية، وسنورد هنا عشرة من النصوص الجميلة التي تحيل على قصيدة النثر، أكثر من إحالتها على القص القصير جداً، على الرغم من طرافة فكرتها وجمال لغتها وعمق دلالتها: · "أنا في داخل مستشفى الأمراض العقلية. ظلي يراقبني من النافذة مبتسما"[32]. · "كالساعة القديمة أنا. لا يتذكرني أحد، إلا وقت العطل. يجدونني محدقا في ساعتي المتوقفة. أنتظر أفول الأيام الرتيبة[33]". · "إنه هناك يتلوى وسط الصرخات ونداءات التوسل، يا لرشاقته: حبل المشنقة[34]". · "الأفكار العارية، في جمجمتي، أشباح تتلاعب بها الذكريات[35]". · "لأن العتمة ترافقني، قد يكون الموت وحده، نافذتي للضوء[36]". · فوق صندوق البريد عشعشت الحمامة ونسج العنكبوت شباكه[37]. · "ماتت عقارب الساعة. توقف الوقت. لكن يد الجلاد لم تتوقف[38]". · "يد تمثال، بطل الحرب والسلام ، مملوءة بالدم[39]". · "في الغرفة المتداعية ، شعاع فجر هارب أضاء صفاً من الُكّتب المنسية[40]. · "الخفاش مصاص الدماء يعيش متخفيا تحت قبة القصر[41]". * * * هكذا بدت لنا مجموعة (أحمر صاخب) التي حوت ما يقرب من مئتي نص قصير جداً: مجموعة تشي بقدرة فائقة على الحكي والالتقاط، وتوظيف بارع للغة المختزلة التي تعبّر عن حكايات تشدّ القلب نحو مزيد من الحزن، وتكشف عن لبنة حكائية مهمة في مجال القصة القصيرة جداً، وإن عانت بعض النصوص من طغيان الذهنية حيناً، والشعرية حيناً آخر. 6/8/ 2013 [1] عماد أبو حطب: أحمر صاخب (قصص قصيرة جداً)، دار العين، القاهرة، ط1، 2013، ص81. [2] المصدر نفسه، ص89. [3] المصدر نفسه، ص194. [4] المصدر نفسه، ص62. [5]المصدر نفسه، ص34. وثمة غلط لغوي في نهاية النص، وصوابه (ولكن عيني الشهيد كانتا تسجلان المذبحة). [6]المصدر نفسه، ص180. [7]المصدر نفسه، ص165. [8] المصدر نفسه، ص22. [9] المصدر نفسه، ص76. [10] المصدر نفسه، ص132. [11] المصدر نفسه، ص80. [12] المصدر نفسه، ص169. [13]المصدر نفسه، ص19. [14] المصدر نفسه، ص176. [15] المصدر نفسه، ص104. [16] المصدر نفسه، ص125. [17] المصدر نفسه، ص172. [18] المصدر نفسه، ص69. [19]المصدر نفسه، ص70. [20]المصدر نفسه، ص156. [21] المصدر نفسه، ص87. [22] المصدر نفسه، ص78. [23] المصدر نفسه، ص32. [24] المصدر نفسه، ص24. [25] المصدر نفسه، ص114. [26] المصدر نفسه، ص60. [27] المصدر نفسه، ص61. [28] المصدر نفسه، ص50. [29] المصدر نفسه، ص72. [30] المصدر نفسه، ص84. [31] المصدر نفسه، ص44. [32]المصدر نفسه، ص77. [33] المصدر نفسه، ص91. [34] المصدر نفسه، ص93. [35] المصدر نفسه، ص121. [36] المصدر نفسه، ص135. [37] المصدر نفسه، ص145. [38] المصدر نفسه، ص146. [39] المصدر نفسه، ص151. [40]المصدر نفسه، ص152. [41] المصدر نفسه، ص160