سنة 1887 - أعلن أديسون عن اختراع الفوتجراف "جهاز تسجيل الصوت". سنة 1948 - أصدرت الأمم المتحدة قراراً بمقتضاه أصبحت المملكة الليبية دولة مستقلة. سنة 1956 - انضمام تونس إلى الأمم المتحدة. سنة 1970 - أعلن العلماء الأمريكان توصلهم لاستخلاص الماء والأكسجين من تربة القمر. سنة 1973 - قرر المجلس الوزاري لمنظمة الوحدة الأفريقية فرض حظر اقتصادي شامل على إسرائيل حتى تمتثل لقرارات مجلس الأمن. سنة 1980 - بدء القمة العربية الثانية عشرة في عمان سنة 1694 - ولد المفكر والفيلسوف الفرنسي فولتير. سنة 1938 - دفن مصطفى كمال أتاتورك في مدينة أنقرة. سنة 1945 - غواتيمالا تنضم إلى الأمم المتحدة. سنة 1991 - انتخب مجلس الأمن نائب رئيس الوزراء المصري بطرس غالي أمينا عاما للأمم المتحدة.
كُتب بواسطة: الرباط - مصطفى لغتيري، ونُشر بواسطة:
أبابريس شوهد 1611 مرة، منذ تاريخ نشره في 2012/11/16
الفصل الأول
أبي ملك..هكذا فتحت عيني على حياة مختلفة ، تفرض علي التعامل مع من حولي بشكل مختلف .. الجميع يعاملني على هذا الأساس.. ابن الملك حضر.. ابن الملك قادم... ابن الملك سيغادر مجلسنا... ابن المالك يلعب ..ابن الملك سينام... من فرط سماعي لهذه الكلمة نسيت اسمي الحقيقي "غيلاس "، الذي لا أكاد أسمعه إلا في القصر، و في فترات متباعدة. .حتى أمي لا تناديني به إلا نادرا. يستهويها هي الأخرى أن تقول " ها هو الملك الصغير يشرفنا بإطلالته" .. كان علي أن أتقمص الدور بشكل كلي، وأن أنسى جميع الصفات الأخرى ، التي من الممكن أن أحصر نفسي فيها ، و أن أجتهد لأتماهى مع ما أصبح دارجا على ألسن الناسي من حولي .. كنت " ابن الملك" أو "الملك الصغير" ، لذا كان علي أن أكون مختلفا عن باقي الأطفال.. حين أجتمع بالأطفال من سني أو الذين يكبرونني قليلا أو يصغرونني، أرى في أعينهم تلك النظرة المتذللة،التي تجعلني أشعر بالاختلاف، و حينما ألعب معهم كان علي دوما أن أكون الغالب والمنتصر.. وعندما أمضي في طريقي نحو مكان ما، اشعر بأن الجميع يتعمد أن يكون خلفي ،فلا أحد يتقدمني .. ، فاعتدت على ذلك ، و لم اعد أتصور نفسي في غير هذا الوضع ..
من بين متعي الصغيرة ،التي أدمنتها كثيرا ، التفرج على الأطفال وهم يتعاركون فيما بينهم ..أشعر بمتعة لا تضاهي وأنا أرى هذا الصراع بين الصغار.. يقتحمني حينذاك إحساس بأنني قادر على المشاركة في الصراع، بل التغلب على الجميع ، وحين تحذوني الرغبة للقيام بذلك ،كنت أشعر بنوع من التواطؤ الخفي، الذي يجعلني دائما أكون المنتصر، وكأن الجميع اتفق على ذلك ، دون أن يخبروني بالأمر ،لقد تعلم الصغار الدرس من الكبار، و استوعبوه جيدا . الملك ابن الآلهة، لا يمكن لأحد أن ينتصر عليه، ومن تمرد على ذلك ، تحل عليه اللعنة إلى الأبد .. بالتأكيد كان يستهويني ذلك غلى أبعد الحدود ، و يرسخ في ذهني أنني يجب ان أكون هكذا ، قويا و لا أحد يفوقني قوة ، لأنني ابن الملك و سأصبح ملكا بعد حين..أتذكر يوما أن طفلا يبدو مختلفا عن الآخرين، دخلت معه في صراع ، تشابكنا بالأيدي، وما أن فعلت ذلك ،حتى شعرت بالندم، أحسست بصلابته ، وبأنني أبدا لا يمكنني أن أنتصر عليه، لم يبد الطفل أي ليونة ، بل عبر عن قوته بلا خوف أو وجل. أخرجت ما في جعبتي من قوة، أحكمت قبضتي عليه، لكنني بعد فترة قصيرة شعرت بنفسي ينقطع، وقوتي تضعف ، وكنت على وشك أن أستسلم وأسقط أرضا، كان الجميع يتفرج على المشهد غير مصدق لما يحدث ..لا أدري كيف تدخلت- فجأة- قوة غير متوقعة، أسقطت الفتى أرضا،و تمكنت من التغلب عليه .. لقد كان بالقرب منا أحد جنود أبي ، يتتبع عن كثب كل ما يحدث لي..حين لاحظ ما يحدث لي ، تسلل نحونا ، امتدت يده نحو الصبي، ضغط عليه بقوة ، فارتخت قبضته، وبطريقة ما سقط أرضا..و هكذا انتصرت انتصارا مغشوشا، لكنه انتصار أنقذ مكانتي لدى الأطفال من حولي، لقد فسر الجميع الأمر بأن " الملك الصغير" لا يقهر أبدا، وأن الآلهة تتدخل دوما لإنقاذه بطريقة من الطرق، و بأشكال غامضة في كثير من الأحيان . ربما لهذا السبب تسلل اليأس إلى قلوب الجميع، ولم يعد أحد يطمع في التغلب علي. فمهما كانت قوة الصبي الذي أصارعه، فإنه مقتنع بأنني لابد قاهره، لأن القوى الخفية لا يمكنها إلا أن تكون في صف الملك الصغير، إنها تسانده دوما في كل كبيرة وصغيرة، ولا يمكنها أبدا أن تتخلى عنه ..هناك حلف قوي بينها وبينه، توارثه أبا عن جد،هو يقدم لها القرابين و هي ترعاه بقوتها الخارقة التي لا تقهر.. هذا الاقتناع الراسخ لم يعشش فقط في أذهان الأطفال، بل يؤمن به حتى لكبار كذلك، أنا نفسي كنت مؤمنا به، لذا لا أتصور أبدا أن أنهزم في أي نزال..
ذات ليلة سألت جدتي الطاعنة في السن عن سبب هذه الحماية التي أتمتع بها دونا عن غيري، فحكت لي الحكاية كما يتوارثها الناس في مملكتنا الصغيرة قائلة:
" تعرف أيها الملك الصغير أن مملكتنا تقع على مشارف الجبل، وتتمدد أراضيها حتى النهر الذي لا يعرف أحد من أين ينبع، ولا أين يصب، لكنني أنا أعرف أنه هدية لنا خصتنا به الآلهة دون غيرنا من الممالك ، التي تعيش قحطا مستمرا، في تلك الجبال الشامخة تنتشر كهوف بلا حصر، تعيش فيها الأرواح المقدسة، أرواح أجدادك منذ غابر الأزمان،التي ما إن تغادر أجسادها حتى تأوي إلى تلك المغارات ، لتستقر هناك ساكنة مطمئنة .. يحدث في بعض الأحيان أن تغادر تلك الأرواح الكهوف، بعد أن تتقمص أجساد حيوانات، تختلف حسب طبيعة الروح التي تتقمصها ، ورغم قوتها التي لا يمكن أن تضاهى، فإنها ما إن تتحول إلى حيوان ما وتغادر الكهف ،حتى تفقد قوتها السحرية وتصبح معرضة للأخطار من كل نوع، تسللت يوما روح تائهة إلى جسد خنزير بري، و مضت في طريقها تنتقل من مكان إلى آخر، تستمتع بالنور الذي حرمت منه نفسها زمنا طويلا.. التجأ الخنزير البري لبعض الوقت إلى ظلال شجرة " أرز" ضخمة، احتك بجذعها الكبير، ثم ما لبث أن غادره الى مكان آخر، حيث يوجد غدير ماء لا يكاد يعلن عن نفسه، في تلك الأثناء ظهر عدد من السكان المحليين فحاصروا الخنزير البري، واخذوا برشقونه بسهامهم المسننة الحادة.
أصابت الخنزير البري بعض السهام، فأفرج عن أنين متوال، ملأ الغابة بصوته الحزين المتفجع ،الذي لم يشفع له لدى الأهالي الذين كانوا تواقين لصيد ضحيتهم .. في تلك الأثناء كان أحد أجدادك القدامى مارا من هناك ممتطيا فرسه، وصله الأنين، لكنه كان أنينا مختلفا ، وكأنه نداء من أجل أن يهب لإنقاذه .. خف جدك بفرسه نحو مصدر الصوت، فرأى السكان المحليين جادين في اقتناص الخنزير البري المحاصر.. نظر من بعيد إلى الحيوان فرأى في داخله روحا تترنح، محاولة مغادرة الجسد الجريح... أحس وكأن رسالة ما ألقيت في روعه، تحثه على القيام بما يستطيعه من أجل إنقاذ الحيوان.. شهر جدك سلاحه ضد السكان، وركض بفرسه نحوهم، أخافهم الفرس النافر، والفارس الشجاع، الذي بدا لهم قويا، ولا حيله لهم في مواجهته...فر السكان مذعورين.. وتقدم الجد نحو الحيوان، الذي استكان في مكانه...دنا منه بشكل كبير.. اطمأن له الحيوان، ولم يأت بأي حركة أو نأمة، فقط تمدد مجهدا ..أشعل جدك نارا، وعالج الخنزير البري بأعشاب برية يعرف فائدتها، واستمر في معالجته هناك أياما و ليالي دون ملل أو كلل..
حين عولج الحيوان، انتفض واقفا، ومضى في طريقه والجد يتبعه بفرسه، حتى بلغا مدخل الكهف .. تسلل الحيوان داخله ، فيما تمدد الجد في مكانه منتظرا ،لكن النوم سرعان ما غلبه ..راح في غفوة لم يعرف كيف سحبته إلى أحضانها الدافئة... ما إن فقد الصلة بالعالم من حوله، حتى وجد نفسه وجها لوجه مع روح تتشكل في هيئات مختلفة.. لم يرعبه ذلك، وإنما ألقى عليه ببعض السكينة ، التي كان في أمس الحاجة إليها . سأل الجد الروح التي تبدت له غير واضحة المعالم :
- من أنت؟
- أجابت الروح :
- أنا الروح الساكنة هذا الكهف ، وأشكرك على إنقاذي.
لم يفهم الجد كلامها ، لكنها أشارت إلى الخنزير البري ، الذي ظهر في الحلم وديعا وهادئا، ثم أضافت :
- سأمنحك الملك وسأحميك وأحمي سلالتك .
ابتهج جدك بكلام الروح، و تمنى لو يسألها كيف يحدث ذلك وهو الفارس المتنقل من مكان إلى آخر منذ أن طرد من قبيلته، لكنها أشارت عليه بالصمت، وأردفت قائلة:
- سأفعل ذلك بطريقتي ، لكن عليك أن تقدم قربانا سنويا إلي ..اذبح كبشا أو ذكر ماعز ، وضعه في مدخل الكهف، ثم اتركه وارحل.
ترك جدك الذي اسمه" أكيلي" المكان، بعد أن اطمأنت نفسه إلى ما فاهت به الروح ، التي أنقذها بشجاعته.. امتطى صهوة فرسه، وتدحرج نحو السهل ..هناك تقدم بخطوات حثيثة نحو وجهة لا يعلمها،وقد كان الناس في السهول قد تداولوا فيما بينهم خبر الفارس الجبار، الذي انبثق فجأة من خلال أشجار الأرز، ممتطيا فرسه، الذي يخب بأناقة وقوة، فأرعب كل من وقعت عليه عيناه..
في السهل كانت مملكة صغيرة، قد قضت أسرتها المالكة في حدث مؤسف، لقد تلقى الملك دعوة من مملكة " جراوة" البعيدة ، وهي مملكة أمازيغية كانت تحكمها ملكة كاهنة، ذاع صيتها في ذلك الزمان، ونسجت عنها القصص الكثيرة، حتى أن جميع الملوك كانوا يطلبون ودها، لكن حظ الملك السيئ قاده في طريق صعب، مليء بالأحراش ، ومنقطع عن باقي العالم ..هناك تعرض الملك لغارة من قبل قطاع الطرق، فمات الحرس وقتل الملك وأسرته.. حين وصل الخبر إلى المملكة تداول كبارها في الأمر، ولم يصلوا إلى حل يرضي الجميع، فقد رغب كل منهم في أن تكون المملكة من نصيب القبيلة، التي ينتمي إليها ..حين استعصى الأمر عليهم قرروا أن يؤجلوا الحسم في أمر الملك ، لكن أحد حكماء المملكة، حذرهم من التباطؤ في اختيار الملك، لأن التردد سيحفز باقي الممالك للتهافت على المملكة الصغيرة وضمها إليها، فاقترح أن يولوا عليهم رجلا غريبا عنهم ،حتى يدبروا الأمر بينهم ..وما إن سمعوا بأمر الفارس الغريب حتى لمعت الفكرة قوية في ذهن الحكيم فأخبر القوم بأنه رأى رؤيا ، لا يدري أحد إن كانت قد رآها حقا أم ابتدعها لإنقاذ المملكة ، فحكاها أمام الجميع :
رأيت في منامي ليلة أمس أرواح أسلافنا تحيط بالمملكة من كل جانب حاملة فارسا غريبا يرتدي جلود الماعز، ويضع على كتفيه فروة أسد، ويمتطي حصانا لم ير أحد أجمل ولا أقوى منه... سمع الناس الرؤيا وصدقوها ، وتطوع بعض السكان الذين التقوا الفارس في الغابة، وهم ينون الإجهاز على خنزير ، بأن أخبروا الجميع بأن الفارس موجود ، وهو ينتقل في الغابة ، يحمي وحيشها من البشر.
وبينما هم يتجادلون في الأمر، إذ طلع عليهم بغتة الفارس شاقا الضباب الكثيف الذي كان يحيط بالمكان.. تعلقت به الأبصار، وهو يخب بفرسه نحوهم ، فما لبثوا أن أحاطوا به، وهم يرحبون بقدومه هاشين باشين.
ترجل الفارس، و اقتعد الثرى رفقة كبارهم ، فخاطبوه قائلين : أنت ملكنا.
ابتسم الفارس " إكيلي" وهو يتذكر نبوءة الروح الساكنة في أعماق الكهف، نظر إلى الجميع بسرور، ثم قال لهم:
- قبل أن أجيبكم لابد من تقديم القرابين إلى الأرواح في كهوف الجبال.
رحب الجميع بالفكرة، ورأوا فيها ما يطمئنهم إلى أن الفارس رجل مؤمن سيسهر على تقديم الطاعة والولاء للأسلاف ، الذين تسللت أرواحهم نحو الكهوف.
ذبحت الذبائح، ووزعت على الكهوف ، فرضيت الأرواح بذلك ، ومنحت بركتها للمملكة وتعهدت على أن تحميها من كل شر وأن تبارك سلالة " إكيلي" على مر العصور والأزمان.
هكذا يا بني، أيها الملك الصغير فأنت كنت وستبقى دوما في حماية الأرواح، فقط عليك أن تحافظ على عادات أجدادك بتقديم القرابين لأرواح الكهوف، ولآلهتنا التي لا تبخل علينا بالحماية".
شغفت منذ طفولة بركوب الخيل. لاحظ أبي الملك هذا الشغف في عيني وفي سلوكاتي، كنت كلما رأيت حصانا أو فرسا تسمرت في مكاني لا أبارحه. أظل أتملي في طلعة الحيوان، أنجذب نحوه بقوة، لا أملك أمامها قدرة على المقاومة... أنظر بتمعن إلى قوائمه الطويلة الصلبة، التي تشبه العيدان القوية، أستغرق النظر في رأس الحيوان المستطيل، أتملى في عينيه الجميلتين ، وسمته الملكي الأخاذ، أفضل أوقاتي أقضيها في صحبة الخيول، يمكن أن أقضي يوما كاملا دون أن أفعل شيئا سوى التملي في هيأتها ..أنتقل من حصان إلى آخر ..تبدو لي متشابهة إلى حدود الإرباك، مع مرور الزمن أصبحت أميز الاختلافات فيما بينها ..إنها رغم التشابه الواضح والخادع، فلكل منها شخصيته المختلفة.. بدأت أميز الذكور عن الإناث، ثم أخذت تدريجيا أعرف الشباب منها والطاعنة في السن، بعد ذلك أصبحت أفرق بين القوية، التي يمكنها أن تحمل الفارس لمسافة طويلة، وتلك المجهدة التي لا تقوى على ذلك.
حين رأى أبي الملك هذا الاهتمام الذي أوليه للخيل، لم يخف غبطته بذلك، بل صار يحدث به مجالسيه،ثم ما لبث أن أهداني حصانا اخترته بنفسي ، و أطلق عليه أبي اسم "أودجاك".. ربما أراد من التسمية أن تكون محفزا له، ليكون كالرعد، يهزم كل الأصوات الأخرى حين ينطلق في الأجواء، لقد تيمن أبي بهذه التسمية، وكان يستهويه أن يرددها، فكلما صادفني في مكان يسألني باحتفاء:
-" كيف حال " أودجاك"
فأرد باستحياء:
-" إنه بخير يا أبي"
أصبحت أقضي أكثر وقتي مع " أودجاك" ..ننطلق في رحاب البراري الشاسعة، التابعة لمملكتنا العامرة.. نجوب كل الدروب والأماكن التي تغرينا بالانطلاق فيها، نستمتع بالركض و االهواء الجميل الذي يداعب وجهينا ..لقد أحببت " أودجاك" الذي كان شبيها بالريح والرعد وكل الظواهر الطبيعية التي طالما حيرتني.
كنت أستعيض به عن الصحبة البشرية، فكل الأطفال في سني كانوا يهابونني،و يعاملونني بكثير من التحفظ، لذا لا يمكن أن يكون لي صحابا... دوما يبدون أمامي الكثير من التزلف والتذلل، فلم ترتح نفسي لأحد منهم. كنت أحدثهم فقط حينما تستوجب الضرورة القصوى ذلك، ولا أختلط بهم إلا في مناسبات محددة، لكن في أعماق أعماقي كنت متأكدا بأن قدري سيقودني إلى رفقة طيبة ، أسعد بها تسعد بي ، ولم أكن مستعجلا لتحقيق ذلك ..لقد كنت ملكا في انتظاري ، لا أستعجل حصول ما سيحصل .. كانت جدتي تخبرني دوما، وهي ترنو إلي كملك في المستقبل، بأن لا أستعجل الأمور، وأتعلم كيف أمتلك ميزة الصبر، دوما كانت تصوغ حكمتها ببلاغة تامة ، وهي تقول:
" أن يبقى المرء وحده، خير من أن تكون له رفقة سيئة"..
لقد اتخذت "أودجاك" لوقت طويل رفيقي الأمثل .. أحكي له بعض ما يجول في خاطري، وكان من جانبه يصغي إلي بكثير من التأمل والوقار.. عيبه الوحيد أنه لم يكن يرد علي، لكنه غالبا ما كان يقوم بحركات تجعلني أشك شكا عميقا وقويا في أن لهذا الحيوان عقلا يفقه به.
حينما أشعر بتعب " أودجاك" كنت أسمح له بأن يستريح مني ومن الركض.. أدعه يسرح في البراري، وأنا أراقبه عن بعد، في تلك اللحظات أهيم على وجهي في ملكوت الطبيعة.. يأسرني ذلك العطاء المتدفق، الذي لا حدود له ..أتتبع أشجار الزيتون المثمرة، أتملى في أغصانها المتشابكة، أتوقف عند وريقاتها الصغيرة ذات اللون الأخضر الشاحب الذي لا يكاد يعلن عن نفسه.. تفتنني تلك الحبيبات الناتئة المتناهية الصغر، التي ستكبر يوما وتكتسب ألوانا زيتية مختلفة، يجد المزارعون في جنبها وعصرها في معاصرهم الحجرية التي لا يكاد مكان يخلو منها... أعرف يفخر أنني أنا ابن الملك سأتذوق زيت هذه الثمار، باختلاف أنواعها لقد دأب المزارعون على حمل جزء من غلالهم إلى بيت الملك، كانا يفعلون ذلك كواجب مقدس لا يتهربون أبدا من أدائه.. يعرفون أن للملك حاشية وجيشا. يدفع عنهم البلاء والخطر، كلما تحرشت بهم قبيلة او المملكة.
في المساءات السادرة في فتنتها حين يحين للشمس أن تحتجب ويتمدد على العالم من حولنا غطاء شفيف، تكتسحه الظلمة بشكل متدرج ، أقفل عائدا نحو القصر ، أراه من بعيد فيعرش في قلبي الفرح أتقدم نحوه بكثير من الثقة و الفخر ، أصل إليه بعد لحظات ..هناك أقود الحصان نحو الإسطبل، وادخل حصن الملك المنيع، أغتسل مما علا الجسد من غبار ،ثم أتوجه عند حكيم القصر، لأرتشف من من معينه الذي لا ينضب، لقد كان الحكيم "يفاو " رجلا طاعنا في السن، غير أن له سمت رجل شاب..عيناه متألقتان بوهج المعرفة ، الذي لا يخفى على النظر، لا أمل من التطلع إلى تلك العينين النيرتين.. أطرح عليه أسئلتي التي تزداد كبرا معي. تقتات من ذهني ، الذي يكتشف له بعدا جديدا كل يوم، فأتلهف أكثر إلى معرفة المزيد... كان الحكيم "يفاو" يعلم عن الدنيا أكثر من أي شخص آخر عرفته. يحدثني عن الآلهة والأرواح والأقوام الأغراب، القريبين والبعيدين ،يشمل علمه جتى أولئك الذين يقطنون ما وراء البحار، يحدثني عن تلك الأمم ،التي تستوطن أرضا غير أرضنا، وهي جادة في البناء والحروب، كان يسعده أن يكرر دوما أن تلك الشعوب هناك وراء البحر شمال البلاد، لها آلهة قساة، تحرضها على القتال، تختزل الشجاعة في القتل وسفك الدماء.. عكس آلهتنا التي تميل إلى الأمن والسلام. تدفع البشر ليذبح القرابين وتقديمها للأرواح الساكنة في أعماق الكهوف، كنت أشعر برهبة عندما يميل الحديث إلى الإله " مغداس" ، الذي يتحكم في أجساد وأرواح الأمازيغ على امتداد المعمور.. من خلال كلام الحكيم عرفت أن قومنا الأمازيغ موزعون على الأرض في قبائل لا حدود لها. يستقرون في السهول والجبال وفي أعماق الصحراء يعيشون في عزلة حادة. لا يكادون يتواصلون فيما بينهم كل قبيلة أو عدد قليل من القبائل تنصب على نفسها ملكا أو شيخا.. لكنهم لا يتحاربون فيما بينهم إلا ناذرا ..كانوا قانعين بقسمتهم هاته. أخبرني كذلك أن الأمم التي تعيش في الشمال وراء البحر، كلما تعبت من محاربة بعضها البعض رنت بأعينها نحو الجنوب، فتعبر البحر مدفوعة بآلهتها شديدة المراس، التي تمجد الحرب والبطولة ، كي تنشب أظافرها في أجساد قبائلنا المتفرقة، فتقتطع أجزاء من أراضينا، فتبني فيها لآلهتها معابد، ولجنودها مسارح وحانات، وحلبات للصراع ، فإذا انتهت الحرب واستقرت لهم الأوضاع، ابتدعوا حربا من نوع خاص، حرب يختلط فيها الجد بالهزل، يدخلون إلى الحلبة رجالا أشداد يشتبكون مع بعضهم البعض حتى الموت، فيما يلتهي الجمهور بالصفير والضحك على إيقاع الدماء والموت والقتل.. حدثني كذلك بأن هذا القوم يلجؤون في أحيان عدة إلى حيوانات شرسة، يقتنصونها من أدغال الغابات والسهوب، يجوعونها، ثم يطلقونها في الحلبة، ثم يدفعون ببعض الأبطال الأسري إلى هذه الضواري الجائعة، ينشب الصراع الدموي، يدافع الأبطال عن أنفسهم للحظات، لكن قوة السباع الجوعى تتغلب في نهاية المطاف، فينهشون ضحاياهم بلا رأفة ولا شفقة، فيما يثمل الجمهور بالفرح، وهو يشاهد الدماء تنفر من الجسد اليائس الشقي، الذي يصبح بعد ثوان لقمة صائغة للضواري الجائعة.
بفضل الحكيم "يفاو" أصبحت قادرا على قراءة ما هو مخطوط على الجلود من كتابة، بل غدوت متمكنا من كتابة بعض ما يخطر في الذهن من هواجس وأفكار ..كنت في فترات معينة أطلع عليها الحكيم،"يفاو " يقرأها ، فيستقر في عينيه حزنا ، لا يكاد يعلن عن نفسه .
حين تكرر ذلك ، سألته ذات يوم:
- لم كلما قرأت ما أكتبه يتملكك الحزن؟
صمت الحكيم قليلا ، بدا عليه الانشغال ،فكر للحظات ، ثم قال:
- اسمع يا بني. إنك ستكون ملكا في المستقبل، وما تكتبه يشي بروح شاعر، يهيم في الطبيعة والتوق إلى العدل والمساواة بين الناس، إن هذا الأمر لا يستقيم.. مهنتك المستقبلية تتطلب منك حزما وصرامة، وقوة وصلابة.. أن تكون شاعرا أيها " الملك الصغير" يعني أن تضيع ملكك وملك أجدادك.. حاول أن تنأى بنفسك عن ذلك ، حتى لا تتمزق نفسك وتتعذب. مهمتك كملك ستفرض عليك القيام بأمور ليست من العدل في شيء، ولا تمت للعواطف بصلة، لكنها ضرورية لصلاح أمر الناس في عامتهم ، و ليس لكل شخص على حدة. فقد نظلم شخصا أو أكثر من أجل صلاح أمة.
أثقل علي كلام الحكيم " يفاو" .. وضعته نصب عيني ،و فكرت فيه كثيرا، فوجدت فيه الكثير من الحكمة ،لذا تجنبت أن أستغرق في تلك الحالات التي كانت تتملكني في فترات متباعدة ، فأحس بضيق في نفسي، وعواطف جياشة تضطرب في أعماق ذاتي، تلك الحالات التي كانت تدفعني دفعا نحو الابتعاد عن الناس، وحمل القلم ، الذي أصبحت قادرا على صنعه من القصب، وأخذ قطعة من الجلد، ثم أشرع في كتابة ما يتداعى في خاطري من أفكار وأحلام ومتمنيات ..أصبحت كلما داهمتني تلك الحالة أهرع نحو"أودجاك" ..أمتطي صهوته، وانطلق كالسهم في اتجاه المجهول، وحين أغيب عن البصر أترجل أدع الحصان يستمتع براحته، وأقصد شجرة ضخمة أتسلقها إلى أعلى، أنزل ثم أعيد الكرة مرارا، حتى يداهمني الانهاك، حينذاك أتمدد على العشب، استنشق الهواء ملء رئتي ، حتى يستعيد جسدي طاقته، ويتحقق للنفس سلامها المتفقد، حينذاك أركب " أودجاك" وأمضي نحو القصر، أحصي خطوات الحصان التي تلهيني إلى حين عن التفكير في نفسي وفي العالم من حولي.
الحنين إلى رفقة إنسانية ظل يؤرقني ، و لازمني هذا الأرق لمدة طويلة ..كلما تقدمت في السن شعرت بالحاجة القصوى إلى رفيق يشاركني أحلامي وطموحاتي وهواجسي... لم تغرني رفقة أحد من أبناء المملكة، لقد كانوا ينافقونني، ولا أشعر أبدا بالصدق في حديثهم.. كانوا يعاملونني كملكهم المستقبلي ، أو على الأقل كابن ملك ، وهذا ما ضاعف من حسرتي ، وجعلني أكتفي بوحدتي، حتى "أودجاك" حصاني الذي اكتفيت بصحبته زمنا طويلا ، لم يعد يلبي رغبتي في البوح والمشاركة ..اقتنعت أخيرا أنه مجرد حيوان ، حتى وان كان يمتلك الكثير من المزايا ، التي تخفف عن نفسي كلما داهمها التوتر أو الضيق..
الفصل الثاني.
هذا الحلم باكتساب صديق سيتحقق بعد وقت طويل، في ذلك اليوم الذي كانت فيه قافلة قادمة من أعماق الصحراء ، تحمل على ظهور الجمال والبغال الكثير من البضائع، التي كانت تبهرني بتنوعها.. لقد اعتادت القوافل أن تحط الرحال لبعض الوقت في رحاب مملكتنا، قبل أن تستأنف مسيرها نحو الشمال أو الغرب أو الشرق، هنا في مملكتنا كانت تجد الضيافة اللائقة بها والأمن الذي تتوق إليه، وأكثر من ذلك زبناء يقتنون أكثر ما تأتي محملة به من الأماكن البعيدة، التي قدمت منها ..لقد عرفت مملكتنا بثرائها رغم بساطة أهلها ومنازلهم،رغم أن أكثرهم يفضل السكن في الخيام المنصوبة على امتداد البصر، ولا يبغون عنها بديلا، لكن غنى أراضيهم ووفرة ماشيتهم تجعلهم قبلة للتجار من كل حدب وصوب..
في اليوم المحدد لقدوم القافلة، تلقى القصر إشارة بذلك ، فاقترح علي أبي الملك أن أرافق مموني القصر إلى حيث ستحط القافلة رحالها... ترددت للحظات، لكنني مدفوعا بالفضول و رغبة أبي الملك قررت أن أرافقهم ..إنها تجربة أخرى تضاف إلى تجاربي التي راكمتها عبر السنين ، فرغم حداثة سني كنت قد خبرت الكثير من الأمور وهكذا ما كان يثلج قلب أبي الملك، ويحفزه ليدفعني للمزيد من اكتساب الخبرات الجديدة ..أسرجت حصاني، ومضيت مصحوبا بالممونين إلى مكان المعلوم، توقفنا هناك في مكان محدد، ثم توجهنا نحو القافلة استقبلنا التجار بكثير من الترحاب.
إنهم يعرفون مغزى أن يزورهم موفدون من القصر، إنه كسب مضاعف، ورواج لتجارتهم، لم يكونوا يحلمون به أو يضعونه في الحسبان، فما إن يسمع الأهالي وخاصة الأغنياء منهم بأن الملك اقتنى من القافلة بضائع ، حتى يتهافتون على اقتناء بضائع من شتى الأنواع ، بضائع لا يمكن أن تخطر على الذهن جلود حيوانات نادرة، خرز بأشكال مختلفة، عطور، وأثواب، وحلي وما لا حصر له من البضائع .
حين التقت عيناي بعينيه مادت بي الأرض، فخفت أن أفقد توازني، كان شابا قويا ومعافى وإن ظهر عليه نوع من الإجهاد ..عيناه شديدتا البياض، زادتهما بشرته السوداء بياض وبريقا متوهجا. نظر إلي بكثير من الإمعان.. شعرت أنه قد وقع في قلبه مثل وقع في قلبي. ناديت أحد الممونين ، انفردت به جانبا، ثم قلت له:
- هل يمكن شراء ذلك الفتى ؟
نظر إلي باستغراب ثم قال
- ألا يكفيك أيها الملك الصغير العبيد الموجدون في القصر؟
قلت لها حاسما:
- لا أريد عبيدا .
رد علي باستغراب :
- وماذا ستفعل به إذن ؟
كنت سأجيبه بما وقر في قلبي، وكاد يلهج به لساني، لكنني فضلت الصمت، تركت لهذا الصمت أن يكون بليغا، يعبر عن حاجتي لذلك الشاب، تقدم الممون نحو التاجر، ثم قال له:
- بكم تبيع هذا العبد؟
نظر إليه التاجر مبتسما تلك الابتسامة التي يتقنها التجار ثم قال:
- آه هذا إنه يدعي بأنه ابن ملك .
حين قال التاجر ذلك خفق قلبي بشدة، وتيقنت بأن حدسي لم لم يخني.
قلت في نفسي :
" هذا يليق بصداقتي "
دفع الممون الثمن المطلوب، ثم خلص الشاب من قيده الجماعي ، الذي كان يجمعه بأشخاص من نفس لونه، ثم قال للممون:
- أحكم قيده حتى لا يفر. أنا أخلي نفسي من المسؤولية عن ذلك ..حمل الممون قيدا، وتوجه به نحو الشاب، لكنني تدخلت، وقلت له:
- لا تقيده.
رد علي والدهشة تعلو وجهه:
- سيهرب إن لم نفعل .
اختلست نظرة معتذرة للشاب،الذي يبدو أنه فهم معناها جيدا، ثم قلت للممون :
- لن يفعل.. إنه ابن ملك .
استغرب الممون كلامي، لكنه أذغن لطلبي .
عدنا إلى القصر محملين ببضائعنا التي اقتنيناها من تجار القافلة.. حكى الممون لأبي الملك حكاية الشاب، وكيف أنني أصررت على شرائه. لم يقل أبي شيئا.. إنما ابتسم فقط، محاولا الإثبات للجميع بأنه يثق في اختياراتي.. كان الشاب صامتا، لكن في أعماق عينيه تألق ذلك البريق اللامع،الذي جعلني مشدودا غليه.. لم يتحدث، ربما لأنه يجهل لغتنا.. لم أيأس من ذلك، كنت على يقين أنه سيتعلم لغتنا بسرعة، فعلامات الذكاء، والبداهة بادية على ملامحه.
سألني أبي بشكل مفاجئ:
- ماذا ستسميه ؟
باغتني السؤال، ربما لأنني لم أفكر أبدا في هذا الأمر، لقد كنت على يقين بأن للشاب اسما ، لذا رددت على أبي الملك :
- من سيدي؟
تدخل الممون ، فقال :
- يقصد الملك العبد.
احتججت على الممون قائلا:
- لا تخاطبه هكذا.. إنه ليس عبدا بل هو ابن الملك .
نظرت حينذاك إلى أبي منتظرا رد فعله على كلامه ..يبدو أنه وقع في نفسه حسنا.. أعرف أن الملك يحتاج إلى الصرامة والقسوة، ولكن أبي رأى في ابنه نصفه الطيب ، الذي لا يمكنه أن يعلن عليه ..ابتسم ثانية، ولم يرد ولكنه كان ينتظر مني جوابا، في تلك اللحظة بالذات لمعت الإجابة في ذهني قوية، لقد حضرت في البال عيني الشاب اللامعتين ..كانتا قويتين وذات بريق لامع، فاستلهمت من توهجهما الاسم الذي سيطلق عليه، فقلت" توسمان" أي البرق.
مرة أخرى نظرت إلى أبي فلمحت الاستحسان في نظراته.
•
قد أردت بإطلاق هذا الاسم على حصانه بأن يكون قويا ومنطلقا وحرا، يماثله تماما ..أسرجت "أودجاك" وأسرج " أوسمان" حصانه "تللي"،
ثم انطلقنا في المروج، التي اكتست بالخضرة في كل جنباتها، حقيقة لقد أبهرني "أوسمان" بإتقانه لركوب الخيل، كان يعامل حصانه بحكنة واضحة ، يعامله و كأنه صديق حميم قضيا معا وقتا طويلا ، فيرد الحصان بحركات تشي بالانسجام الذي يجمع الفارس بفرسه .. في لحظة ما، وبإيماءة مني انخرطنا في سباق محموم، لم يتوان "أوسمان" في الاشتراك فيه، كل منا انطلق بكل ما يملك من قوة نحو الأمام، ما سرني حقا و أدخل البهجة إلى نفسي أن "أوسمان" لم يعاملني كابن ملك، بل كان لي ندا في كل شيء.. يتفوق علي وأتفوق عليه.. أتجاوزه لفترة من الزمن، ثم ما يلبث أن يمر بجانب كالريح...، كالبرق... ،كالاحساس العابر، الذي يخترق المرء بغتة ، وسرعان ما يتجاوزه ، يشرع في التنقيب عنه، فلا يعثر له على أثر.. يتجاوزني "أوسمان" بحصانه 'تللي" فأحفز حصاني "أودجاك" على اللحاق بهما، يتوتر الحصان، يذعن لرغبتي، فينطلق كالسهم، وما هي إلا لحظات حتى ألحق ب"أوسمان" وحصانه ، ثم أتجاوزه.. أسترق النظر إليه ، فأرى على وجهه علامة تواطؤ ما ..أفهمها ، فأخفف من سرعة حصاني، يلحق بي، فنصل إلى الهدف الذي حددناه سابقا متجاورين ، لا يكاد أحدنا يتفوق على الآخر..نترجل عن الحصانين . نتركهما ينعمان بالراحة التي يحتاجان إليها، ونتوه في المروج، ممتعين نفسينا بهذا الجمال الاستثنائي، وخيوط المحبة والأخوة تتشابك في غفلة منا بين قلبينا النابضين بالحياة..
في المساء، توجهنا طرا نحو غرفة الحكيم" يفا و" استقبلنا بلطفه المعهود، وأريحته التي يشهد بها الجميع أضفى حضور "أوسمان" للدرس مسحة خاصة، لقد كان الحكيم ينتقل من لغة إلى لغة بسلاسة يبسط أمامي درسه بلغتنا ، ثم يترجم ما قاله ل"أوسمان" بلغته الجنوبية السمراء، التي لا حظت أنها تتوفر على كلمات من لغتنا... في هذه الحصة أتاح الحكيم لصديقي " أوسمان" فرصة الكلام، وطفق ينقل لي محتوى كلامه، حتى أكون فكرة واضحة عن صديقي ، الذي اختارته الأقدار ليكون رفيقي الأبدي، حدثنا أوسمان عن مملكته على ضفاف نهر النيجير. قال عنها كلاما كثيرا، وصلني منه ما خمن الحكيم أنه يهمني أكثر، تحدث عن أسرته الملكة المتعددة الأفراد، فالملك أبوه اتخذ له زوجات بلا حصر، كل منهن أنجبت عددا من الأبناء والبنات، حتى أن معرفتهم بأسمائهم تبدو مستحيلة ، لكنه كان مفضلا عند أبيه الملك ، و كان يسمح له بما لا يسمح به لغيره، يرافقه معه في زياراته للقبائل الخاضعة لحكمه، لقد كان يعده ليخلفه دون أن يصرح بذلك لأحد, حتى لا يحدث تنافس بين الإخوة، أخبرنا أنه لم يكن أكبر الإخوة، وإنما كان أنبههم وأشجعهم على الإطلاق ، لذا نال الحظوة من طرف أبيه الملك و حاشيته ..في مملكته يتم الاعتناء بالبقر بشكل ملحوظ، وذكر عدد القطيع الذي يتوفر عليه هناك، فأصابنا بالدهشة، حتى كدنا نشكك في كلامه، لكننا لم نفعل لأننا لمسنا الصدق في كل ما يتلفظ به..
سأله الحكيم عن حكاية أسره، فرد قائلا:
" كنت مغرما بالصيد.. أتيه اليوم كله في البراري بحثا عن الطرائد، لقد كان ذلك يدخل السرور على قلب أبي الملك، فأواظب على القيام به.. كان أبي ينصحني بأن اختار لي رفقة من جنوده... غير أنني مدفوعا بفورة الشباب وحماسه كنت أرفض ذلك، وأعتبره انتقاصا من رجولتي وشجاعتي..
خلال يوم نحس ابتعدت كثيرا ، دون أن أدري بذلك، حتى توغلت في أراضي مملكة مجاورة، محاذية لمملكتنا.. لم أدر بنفسي حتى وجدتني محاصرا بالجنود من كل جانب.. لم أخف، ولم أجبن، لكنني شعرت بالأسف... ومع ذلك وطنت نفسي على أنني قادر على إنقاذ نفسي مما أوقعت نفسي فيه... سألني الجنود عن موطني، فرفضت الكشف عن هويتي حتى لا يستغل الأعداء ذلك، ويذلون أبي الملك بشروط قاسية ليفتديني منهم. رفضت الإجابة بداية، لكن حينما شددوا علي بأنواع التعذيب ، ادعيت أنني صياد تاه في طريقه... لا أظن أنهم صدقوني. لقد استغربوا أن أكون صيادا، وأنا في مثل هذا السن. .إنني أبدو يافعا جدا، ومظاهر النعمة تتبدى على ملامحي.
في غفلة منهم. أصبت أحد الحراس بضربة مفاجئة وركضت هاربا... توغلت في الحقول راكضا نحو وجهة لا أعلمها. فقط كنت أتمنى أن أصل إلى أرض أنتمي إليها، لعلي أجد هناك أناسا من قومي، لكن للأسف الشديد، وبعد تعب وجهد وجدت نفسي وجها لوجه مع منحدر سحيق لا يمكن تجاوزها. نكصت على عقبي وقد أخذ مني اليأس مأخذه، لم أخط سوى بعض الخطوات حتى وجدت نفسي محاصرا من جديد، بمجموعة من قناصي العبيد، فلعنت حظي المشؤوم ..تمنيت لحظتها لو أنني لم أتهور و أفر من بين يدي الجنود، الذين كانوا بالتـأكيد سيطلبون فدية كبيرة، قد تكون مائة بقرة أو أكثر، ثم أعود إلى أهلي سالما معافى، حين أحاطت بي عصابة القناصين شعرت بأنها النهاية، حاولت المقاومة لكنهم كانوا محترفين يحسنون التعامل مع ضحاياهم ..أحكموا علي قيضتهم ..قيدوني بأغلال محكمة، لا يطمع المرء في الفكاك منها، فاستسلمت لقدري.. في لحظة ما حاولت أن أخبرهم بأنني ابن الملك، لكنهم لم يصغوا لكلامي ، لأنهم يعرفون حق المعرفة انهم حتى وان صدقوني،و قدموني للملك مقابل فدية، فإن عقابهم سيكون محتوما، فإن لم يكن من الملك وجنوده، فبالتأكيد سيحدث من الرعبة، التي تنظر إلى الأسرة المالكة بعين القداسة ، و لا تتسامح مع من يمس أفرادها بأي سوء..
سحبوني خلفهم مكبلا بأغلال العار والمهانة لكنني لم أشك
ولم أتوجع لقد قررت أن أتحمل مصيري، بلغوا بي إلى مكان يجتمع فيه التجار، وهناك باعوني إلى التاجر ، الذي اقتادني رفقة عبيد آخرين إلى القافلة، و من هناك بدأت مرحلة الهوان ، قطعنا خلالها طريقا لا يمكن للعقل أن يتخيل أهواله ومشاقه، حتى انتهى بنا المطاف في هذه المملكة. مملكتكم.".
سعادتي ب" أوسمان" لا تعادلها سعادة.. فقط عكر صوفها اللغة، لم نكن نتواصل بالشكل الكافي ..لم تعد الحركات والإيماءات كافية.... لقد تدفق في نفسي كلينا شلال من العواطف، اكتسحنا إلى حيث لا رجعة و غمرنا بمياهها الناعمة ، فازداد كل منا تعلقا بالآخر ..
كان أوسمان فطنا. .بسرعة أخذ يتلقف بعض الكلمات، يستعملها في كثير من الأحيان بعيدا عن معناها الحقيقي، لكن ذلك أدخل السرور إلى قلبي ، فرغم غرابة أوسمان في بعض الأمور إلا أنها كان شيئا ينتمي إلي و أنتمي إليه .. هذه الغرابة تجلت لي في بعض الطقوس ، التي كان حريصا على القيام بها. كلما انطلقنا في البراري البعيدة، وتوقفنا لاستجماع قوانا، وإفساح المجال للحصانين كي يسترجعا قوتهما.. كان أوسمان يتنحى بعيدا، يخط على الأرض دائرة، يضع في جنباتها حصى يجتهد دون كلل في رصفه حتى يشكل دائرة مغلقة بالكامل. تسيجها الحجارة، ثم يدخل وسطها ويشرع في القيام ببعض الحركات ، التي لم أفهم معناها.. كان يقوم بها بنوع من الانتشاء وكأنه يمارس الصيد، يتنقل هنا و هناك و يهاجم عدوا مفترضا لا يراه غيره... أجلس أنا في مكاني مأخوذ بحركاته وعضلاته البارزة والقوية، أتمنى في قرارة نفسي لو أمتلك مثل تلك العضلات، لكن ذلك لا يشغلني كثيرا،بل أتماهى في طقوسه التي أضحت تستهويني بشكل غريب .. حين تجاوزنا بشكل نسي عائق اللغة، أخذت أستفسره عما يقوم به، فكان يشير إلى السماء، فهمت من ذلك أنه يقدم الولاء لأرواح أجداده ، الذين استقروا هناك في الأعلى، عكس أجدادي انا القاطنين بالقرب منا في الكهوف، ويلجؤون بسرعة إلينا لنجدتنا كلما احتجنا إلى ذلك ..طلب مني في إحدى المرات أن أشاركه طقوسه، تردت لحظة، لكنني حسمت أمري سريعا، فولجت الدائرة، و طفقت أقلد حركاته، أشعرني ذلك شعورا غريبا.. لقد أحسست أن شيئا ما في داخلي يتحرك بقوة، حتى كدت أفقد وعيي وتوازني، فانسحبت بتحريض منه من الدائرة..
في الدرس المسائي سألت الحكيم عما يقوم به "أوسمان" فأوضح لي بأننا جميعا نشترك في تقديس الآلهة والأرواح، لكن لكل منا طريقته في فعل ذلك، أربكني هذا الأمر، فلقد كنت إلى وقت قريب أعتقد أن طريقتنا في تقديس الأسلاف هي الطريقة المثلى، ودليلي على ذلك أن أرواحهم سرعان ما ترضي وتستجيب لما نطلبه منها.. كلام الحكيم "يفاو" جعلني أفكر بشكل مختلف، وهكذا لمعت في أعماقي أعماقي فكرة تمسكت بها طول حياتي، ولا أزال متمسكا بها إلى اليوم يمكن أن أعبر عنها بما يلي:"ما دمنا مختلفين في اللون واللغة وطرق العيش، فلم لا نختلف في طريقة تقديس الآلهة والأسلاف؟" حكم تفكري وسلوكي هذا الاقتناع وجعلته نبراسا لي في التعامل مع كل من يختلف معنا من الأقوام القريبة والبعيدة..
في حضن القصر حينا، وفي أحضان الطبيعة أحيانا كثيرة كانت أجسادنا تنمو تدريجيا، أما عقولنا فكانت تقفز قفزات متوالية في رحاب الحكيم "يفاو" ، الذي عمل جاهدا على تعريفنا بكل ما نحتاجه من معارف ، لقد ضرب الحكيم يفاو في الأرض شمالا وجنوبا، شرقا وغربا وتعرف على أقوام وشعوب، زادته معرفته بها حكمة ، و قاده شغفه للمعرفة إلى بلاد قصبة، هناك في أقصى شرق القارة، حكى لنا عن شعب مصر وحكامها، الذين بنوا الأهرامات، تلك التي يحار المرء في تعليل طريقة بنائها حاول تخيل ذلك لكنني كلما حكيت للحكيم ما وقر في ذهني عنها ذلك خاطبني قائلا:
"ليس من رأى كمن سمع"
حدثنا بالتفاصيل عن تحنيط المصريين لموتاهم، وكيف يدفنون مع الميت كل ما يملكه في الحياة الدنيا من ذهب فضة، لقد كانوا يعتقدون أن الميت سينبعث يوما حيا، فيجد أملاكه الثمينة بجانبه، أخبرني كذلك عن النهر العظيم الذي يخترق بلاد مصر من جنوبها إلى شمالها والذي كان المصريون يعتقدون أن منبعه في السماء، لكن ما شد انتباهي في كل ما جاء به الحكيم "يفاو" تلك الحكايات عن شعبنا المتفرق في بلاد الدنياـ حكى لنا بفخر، بأنه أينما حل وارتحل وجد لنا إخوة من الأمازيغ يعيشون في الأرض الواسعة.. منهم من يعيش في أعماق الصحراء مكتفين بشطف العيش، ومنهم من أسسوا ممالك وحضارات، وتربطهم علاقات متينة بباقي الدول الأخرى.. حين يحكي الحكيم كل ذلك، يداعب خيالي حلم .. يصر علي أحيانا، لكنه يمر عابرا في أحايين أخرى، حلم في أن يتحد هؤلاء الأمازيغ في دولة واحدة، يتوحدون فتقوى شكوكهم، وتكون رادعة لأمم الشمال التي تستقر ما وراء البحر، تلك التي يستهويها الغزو، فتوجه جيوشها نحو بلادنا الضعيفة المتفرق أهلها ودولها وقبائلها، لم أحدث الحكيم "يفاو" بما يخالجني من أفكار وأحلام ، لقد احتفظت بها لنفسي، تداعب وجداني في فترات الخلوة التي ظللت حريصا عليها رغم الرفقة الطيبة ، التي ظفرت بها مع صديقي "أوسمان" ..