سنة 1943 - استقلال لبنان عن فرنسا وتسلم بشارة الخوري رئاسة الجمهورية، كما تسلم رياض الصلح رئاسة الحكومة. سنة 1943 - ألقى الحلفاء 2300 طن من القنابل على برلين خلال الحرب العالمية الثانية. سنة 1967 - صدور قرار مجلس الأمن الشهير رقم 242 بعد عدوان يونيو 1967 سنة 1968 - انتهاء العمل في نقل معبد أبو سمبل بأسوان. سنة 1989 - اغتيال الرئيس اللبناني رينيه معوض - بعد أسبوعين من توليه الحكم - وانتخاب إلياس الهراوي خلفاً له سنة 1890 - ولد شارل ديجول رئيس فرنسا وقائد كفاحها ضد المحتلين النازيين. سنة 1963 - اغتيل الرئيس الأمريكي جون كندي.
كُتب بواسطة: مصطفى الغتيري، ونُشر بواسطة:
أبابريس شوهد 1249 مرة، منذ تاريخ نشره في 2012/12/09
أتمدد على سريري لأنال جائزتي البسيطة، أنغمس تدريجيا في النوم بعد أن أتقلب في مهجعي لفترة محدودة ثم سرعان ما انتقل إلى العالم العصي على الفهم. أرى نفسي أرتدي بياضا. شعري مسبل على كتفي، ومن الأفق هناك رجل يتطلع إلي من بعيد.. أمضي نحوه مجبرة بخطى ثابتة وجلة، وفرحة في الآن ذاته.. كلما دنوت منه ابتعد. يصهل قلبي حزينا، يراودني إحساس بأن لا فائدة من المحاولة. أقف.ألتفت من حولي باحثة عن أي شيء يعيد لي توازني.. تظهر أمامي فجأة وردة عملاقة، أحاول تبين لونها، لا أستطيع. أتجاهلها، لكنني أجد نفسي مركزة عليها من جديد، فإذا بامرأة تشبهني تنبثق فجأة من عمق الوردة، تنظر إلي.. تلوح لي بيدها، أتمعن في يدها، فإذا بها تحمل كتابا، أفكر وأنا في أحضان الحلم، أحاول أن أفهم معنى لما أراه. يستعصي علي ذلك. تغادر المرأة محلقة، وكأنها نحلة امتلأت بالرحيق وغادرت نحو قفيرها. أحاول أن ألحق بها، لا أستطيع.. أجرب أن أناديها بصوت مرتفع. لكن الصوت يخذلني، لا يكاد يتجاوزني، بل لا يتجاوز حنجرتي. أشعر بحزن كبير، تنسل دموعي من محجري، أبكي.. يتملكني شوق عارم لمرافقة المرأة، أتحسر.. فجأة ينبثق الرجل، الذي رأيته سابقا، يظهر من عدم. يربت على كتفي. أندهش بحضوره، أمد يدي نحوه لأمسك به، وقد اعتورتني ارتعاشة الرغبة. لكنني لا ألمس شيئا. أنظر من حولي باحثة عنه..لا شيء.. لا شيء.. أشعر وكأنني أفقد نفسي، أضيع..أندثر، فإذا بي أهب فزعة من سريري. أركض نحو النافذة، أفتحها، أنظر نحو الشارع، في الأسفل، فأراه هناك ينتظر، يتطلع إلي بفضول..أفرح ..أخجل..أحاول أن أتوارى عن نظره.. لا أستطيع ...أصدق أنني غادرت الحلم، ,و أن الرجل الذي يستوطن عقلي الباطن قد حضر، وهو ينتظرني هناك على ناصية الشارع.. أعود إلى غرفتي ركضة أرتدي أجمل ملابسي لألتحق به. لكن ما إن أشرع في تسريح شعري ، حتى يهيمن علي الإحساس بأن ما رأيته مجرد وهم، وبأنني لم أغادر سريري البثة
الفصل الأول:
-I-
-هل يمكن لمكالمة بسيطة أن تغير حياة المرء؟
دوما كنت أسمع أن حادثا بسيطا يمكنه أن يغير حياة الإنسان ويقلبها رأسا على عقب. لم أكن أصدق ذلك. فقط أعتبره نوعا من المبالغات التي يروق للناس الحديث عنها والتسلي بترويجها بينهم في أوقات فراغهم الكثيرة... في المسلسلات والأفلام والقصص والمسرحيات يمكن لذلك أن يحدث، بل من الضروري أن يحدث، فجميع الكتاب والمخرجون تقريبا يستهويهم هذا الأمر. يدبجون به كتاباتهم ويؤثثون بها أفلامهم ومسرحياتهم. أما الواقع فمختلف وعصي، من الصعب تغييره بمثل هذه البساطة. له منطقه الخاص. غالبا ما يتغير نتيجة تراكمات، أبدا لم أسع إلى تحقيقها، فمنذ زمن بعيد اخترت صاغرة أن أذعن لحياتي كما هي. هكذا أضحت تعجبني بدون مفاجآت ولا منغصات. تنساب هادئة ومطمئنة برتابة تستهويني. أعرف أنني أضيع الكثير بنهجي هذا المسلك المطمئن ، لكنه يناسبني إلى حد بعيد. كرست وقتي وجهدي للبيت. أرعى إخوتي الذين يعيشون معي تحت سقف واحد. يشعرني ذلك بسعادة لا تضاهى. أكاد أطير من الفرح ،وأنا أستقبل كذلك أخواتي البعيدات عني ضيفات في البيت.أعتني بهن وبأبنائهن، حتى بعض إخوتي الذين استقلوا عني بعد أن تزوجوا وفتحوا لهم بيوتا خاصة بهم يزورونني باستمرار، ويمنحونني الشعور بأنهم لا يستطيعون أبدا الاستغناء عني..أشعر في أعماقي بأنني خلقت لتأدية هذه المهمة. نظرات العرفان بالجميل التي ألمحها في أعين إخوتي، وتتجلى واضحة في تصرفاتهم تعوضني عن أي متعة يمكن أن أجنيها في هذه الدنيا ... ياااه ما أسعدني !! .
حين تتجرأ إحدى أخواتي – مدفوعة بالشفقة – وتفاتحني في طبيعة الحياة التي اخترتها لنفسي، مغلقة كل احتمالات تغييرها، كنت دائما أفحمها برد مقنع، فلا تعود إلى نفس الحديث إلا بعد مرور زمن طويل.
منذ أن اخترت الانفصال عن زوجي، الذي لم تجمعني به سوى سنتين كئيبتين، خلفتا في النفس مرارة لا يمكن للزمن أن يمحو أثرها، قررت أن أكرس حياتي للبيت ولإخوتي، خاصة بعد أن فارق والداي الحياة، وتركا وراءهما هذا البيت الكبير، الذي أضحى قبلة لجميع العائلة، يقصدونه في أوقات متقاربة، حتى أنه لا يكاد يخلو من زائرين. الجميع يتنسم فيه روحي المرحومين، ويجد بين أحضانه الدفء والعناية اللتين يتوق إليهما.
على هذا المنوال استمرت حياتي.. أهتم بنفسي كربة بيت، ينتظرها زوجها كل ليلة، لتمسح عن نفسه غبار الحياة القذر والمتعب. أرتدي أجمل ما لدي من ملابس. أعتني بتسريحة شعري، وخاتم الزواج لا يفارق إصبعي، وكأنني امرأة متزوجة. أحاول باحتفاظي به أن أبعد عن طريقي أي رجل يفكر في الاقتران بي ، أو على الأقل يحدوه طمع لإقامة أي علاقة عاطفية معي. حقيقة لقد اكتفيت من الرجال. من تجربتي المريرة معهم استخلصت بأنهم لا يناسبونني، ولا يلزمونني بالمرة. فترة الزواج التي قضيتها مع زوجي السابق، خفضت توقعاتي من جنس الرجال. إنهم متعبون ومكلفون وأنانيون، المرأة بالنسبة لهم مجرد آلة جنسية لتفريغ كبتهم. لا يمنحونها أي تقدير مهما ضحت وتنازلت، وداست شخصيتها بل وتخلت عنها. أبدا لن أكرر التجربة. لقد كانت قاسية وكريهة، عانيت خلالها معاناة حقيقية، تدهورت حالتي النفسية، فأديت الثمن من صحتي الجسدية. لذا حين تخلصت من ذلك الزوج، شعرت بالانعتاق، وكأنني أولد من جديد، حتى أن والدتي أطلقت زغرودة صادحة، تعبر بها عن سعادتها بحصولي على الطلاق، الذي لم يكن الظفر به سهلا. لقد كان جميع أفراد عائلتي شاهدين على محنتي، ورغم أن أكثرهم نصحني بالصبر، إلا أنهم في آخر المطاف احترموا رغبتي وساندوني بلا تحفظ ولا زالوا يفعلون ذلك إلى اليوم. لقد أنزلوني بعض الطلاق مكانة خاصة بينهم، لم تشعرني أبدا بأي عقدة نقص أو ذنب.
معاملتي لإخوتي الذين لا يزالون يقطنون معي في البيت مميزة. أعتبر نفسي أما لهم، وهم كذلك يعاملونني بالمثل، فأشبع ذلك غريزة الأمومة، التي سأكون كاذبة إذا ادعيت أنها لم تنغص علي حياتي لفترة من الفترات ، حتى أنني كنت أتمنى لو أنني خرجت من تجربة الزواج بابن أو ابنة، غير أن ذلك كان مستحيلا، لأن التحاليل الطبية أكدت أن زوجي يعاني من العقم. في الحقيقة تعويض إخوتي كفاني، وزاد عن حاجتي، فلم يعد الأمر يؤرقني كما حدث بعيد الطلاق.
في ذلك الصباح الربيعي، كان الجود دافئا، ويبشر بطلائع الصيف التي لن تتأخر كثيرا. كان اعتدال الجو يغري بالنزهة في أي فضاء على أطراف المدينة. كنت قد فكرت أن أقترح على أبنائي / إخوني أن نستغل الفرصة لتغيير الأجواء في الضاحية أو في مدينة قريبة.
لا زال منهمكة في توضيب البيت. أتنقل بين غرفه، محاولة أن أعيد إليه الألفة، التي أفقدته إياها فوضى الليل.. فجأة رن الهاتف .. تركت ما في يدي، وتوجهت نحوه، في المكان الذي يقبع فيه، في ركن قاعة الضيوف.. أمسكت السماعة:
- ألو ..من ؟
-ألو، أهلا ماريا...
-أهلا و سهلا أستاذة، كيف حالك؟
-عرفتني من صوتي
-نعم، كيف لا أعرفك. كيف حالك؟
-أنا بخير، كيف حال أبنائك، أقصد إخوتك؟
-كلهم بخير، شكرا. أين اختفيت كل هذه المدة؟
-الحقيقة، كنت مستغرقة في انجاز عمل مسرحي .
- مسرحية؟.. أعرفك كاتبة، هل أصبحت ممثلة؟
-لا أبدا .. لقد عكف مخرج على إخراج مسرحية كتبت نصها .
-آه.. فهمت . هنيئا لك.
-شكرا ..لقد اتصلت بك لأدعوك وأسرتك إلى العرض الأول.
-عن ماذا تتحدث المسرحية؟
- لا أستطيع أن أخبرك الآن.. المهم أنها تنتمي للمسرح التجريبي.
-طبعا سأكون حاضرة، وسأحاول أن أحضر معي بعض إخوتي.
-شكرا لك عزيزتي. حضوركم سيسعدني.
-العفو أستاذة. هذا شرف لنا.
-أتركك الآن عزيزتي ..سأنتظرك يوم العرض.
-بالتأكيد سأكون هناك..إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
لست مولعة بالعروض المسرحية ..أكثر المسرحيات التي شاهدتها عبر التلفزيون.. في فترات سابقة كنت أنتظر موعد بثها وأستمتع بها ، خاصة المسرحيات الكوميدية، أما اليوم، فلم يعد لي نفس الحماس لذلك، لا أدري السبب الحقيقي ولا أرغب في التفكير فيه. معلوماتي عن المسرح التجريبي ضئيلة جدا. فقط شذرات التقطتها من هنا وهناك، لا تكفي بالتأكيد لتكوين صورة واضحة عن هذا المسرح التجريبي، الذي لا أدري من أين انبثق لي فجأة، وفرض علي التفكير فيه..
أيام دراستي الجامعية كنت أعلم بتنظيم مهرجان حول المسرح التجريبي في الكلية التي أدرس فيها. لم يدفعني الفضول لمتابعة العروض المسرحية. ربما أكون قد حضرت لعرض واحد، فلم أفهمه، ولم يشدني إليه. كان الممثلون يبالغون في الحركات والإيماءات الغريبة، وينتقلون من موضوع إلى آخر، بشكل يصيب المتفرجين بالحيرة. كانت الحياة آنذاك بالنسبة لي بسيطة وواضحة، وكنت أرغب أن ينعكس ذلك على كل ما أقوم به أو أقرأه أو أشاهده. لم يدم حضوري العرض سوى فترة زمنية محدودة جدا، كانت كافية لأعلن عن عجزي الكامل عن التعاطي مع هذا النوع من المسرح. منذ تلك اللحظة اتخذت قرارا بيني وبين نفسي ، مفاده أنني لا أصلح لهذا الشيء المدعو المسرح التجريبي، وبالطبع لا يصلح هو كذلك لي.
لم استوعب الغرض منه ، بدا لي ترفا فنيا، إذا استغنيت عنه لن أفقد شيئا ذا بال. ربما هو موجه إلى نخبة النخبة، أولئك الذين يفهمون في كل شيء ولا يستعصي عليهم أمر، حتى أنني شبهته بالفن التشكيلي التجريدي، الذي لم أفهم يوما لوحاته، وأستغرب حينما يدعي شخص ما أن لوحة ما أثرت فيه، وفهم معناها. كنت أعتبر ذلك نوعا من التباهي الفارغ.. لا يعني هذا الكلام أنني لا أميل إلى الفنون، بل بالعكس، أحب أن أجد نفسي في معرض للصور الفتوغرافية، أو معرض للوحات الانطباعية، خاصة تلك التي تصور الطبيعة في تجلياتها المتنوعة.. يفتنني الأدب كذلك برواياته وأشعاره. أحيا في كنف تجاربه الخيالية أجمل اللحظات وأبهاها، وكأنها جزء من حياتي، أتماهى مع الشخصيات، أسقط أحداثها الحزينة على حياتي، إنها تطلق عنان الحلم والخيال في نفسي، فأشعر بعد الانتهاء من قراءتها بأنني أفضل. أستعذب كذلك أسلوب الكتابة، فتبهرني قدرة الكتاب على استحداث تعابير جديدة وعميقة، تعبر بالضبط عن الأحاسيس التي تنتابني.. أشعر وكأن الكاتب يعبر عني ، أو يعبر بلساني ، فيختلج قلبي لذلك.. للسينما كذلك نصيب من اهتمامي. في مرحلة من حياتي كنت أرتاد دور السينما بكثرة. شاهدت العديد من الأفلام إبان عرضها الأول. كنت أستمتع بذلك أيما استمتاع. حتى المسرح استولى على اهتمامي وشغفي بالفرجة، لكنني كنت أميل إلى المسرحيات الكوميدية، ولم أتصور للمسرح جمالا خارج هذا النوع، الذي يفجر القهقهات المتتالية من أعماق المتفرج. أكثر المسرحيات شاهدتها عبر التلفاز لكن ذلك لا يعني أنني لم أزر المسرح أبدا، بل كان المسرح البلدي في مركز المدينة شاهدا على ارتيادي له في فترات متباعدة، خاصة إذا تلقيت دعوة مجانية من أحد إخوتي. نعم لقد كان لي اهتمام بالمسرح كذلك. لكن أن أحضر لمشاهدة مسرحية تجريبية فذلك ما كان خارج تفكيري. لم يراودني ذلك أبدا حتى في أحلامي، وحدها علاقة أسرتي بالأستاذة رقية واحترامي الكبير لها، ما سيدفعني للاستجابة لهذه الدعوة. بمعنى أنها نوع من المجاملات الضرورية في الحياة. أفكر أن أحضر للعرض لبعض الوقت ثم أنسحب. المهم أن تلاحظ الأستاذة رقية وجودي، ثم أغادر القاعة في صمت، وأعود إلى حياتي الهادئة المطمئنة، التي بقدر ما توفر لي راحة النفس ، تجعلني أستمتع بالقناعة في الحياة، حتى أن طموحاتي لم تعد تتجاوز – في أحسن الأحوال – رؤية الفرحة تستقر في عيون أبنائي أقصد إخوتي، وأبنائهم الحاليين وأولئك الذين ستقربهم عيناي في المستقبل ..
خلال جلسات عديدة صفيت حسابي مع القدر. النتيجة التي توصلت إليها هي أن القدر خائن وغادر ولا يؤتمن جانبه. لم يمنحني ما أستحقه. أبدا لم أسئ لأحد، ولم أتسبب في الأذى لكائن من كان.
قبل الزواج كانت أحلامي بشساعة البحار والمحيطات. كنت أظن العالم هدية لي، سأستمتع بها كما أشاء. أحلامي اليوم تضاءلت حتى أضحت عصية عن التعبير عن نفسها أو تظهر لرائيها. نعم لم أحزن كثيرا بسبب ذلك. اتبعت استراتيجية فعالة في مواجهة الأمر ..خلقت السعادة مما هو متوفر لدي، واكتفيت بذلك. لم أعاند القدر في اختياره. بل تجاهلته. وتمادى بي الأمر إلى أن أصبحت أسخر منه. في أعماق نفسي كنت أردد :" أستحق أكثر من ذلك بكثير.. لكن لا بأس". كنت أكتفي بذلك ،لكنني عاهدت نفسي عهدا غليظا بأنه حين تأتي ساعة الرحيل، أقصد الموت سأبتسم للقدر ابتسامة ساخرة. ربما قد تفيدني في أن أشفي غليلي منه، وأرد له الصاع صاعين. أتصور نفسي خلال تلك اللحظة، وقد عادت لي كل قواي وصلابتي، بل استقرت كل صلابة العالم في قلبي من أجل تنفيذ مهمتي الأخيرة، بالتأكيد سيكون أفراد عائلتي محيطين بي، وهم يرمقونني بأسف وحسرة ظاهرة، وبالتأكيد ستتسرب إلى أنفسهم الحزينة بعض العبارات من قبيل " عاشت عمتي أو خالتي وحيدة، وهي لا تستحق ذلك". سأطلب منهم أن لا يشيعوا جثماني بالبكاء، وأن لا يأسفوا على رحيلي، بل أحثهم على الاستمرار في حيواتهم وكأنني لا أزال بين ظهرانيهم..أحنو على هذا، وأربت على ظهر ذاك..وأتوسط بينهم لحل مشكلاتهم الصغيرة الطارئة، وأقدم لهذه وتلك النصيحة إذا ما رغبت في شراء فستان أو هدية..
طبعا من الغريب أن أفكر في كل ذلك، وأنا لا أزال أتمتع بمسحة من شباب، وقبس من جمال، حتى أن الجميع يتنبؤون لي بحياة جديدة، يعتقدونها على وشك أن تتحقق. إنها أمانيهم التي يصدقونها، ولا يتفهمون أبدا نزوعي نحو الاكتفاء الذاتي. بل منهم من يرشح لي بين الحين والآخر عريسا جديدا على المقاس، فأرفض الخوض في أي حديث من هذا النوع. في بعض الأحيان وتحت إلحاحهم القوي، أسايرهم في لعبتهم الجميلة، ألتقي بالعريس المقترح. أقضي معه وقتا قصيرا، ثم سرعان ما أجد مبررا لقطع علاقتي به. وأعود إلى وحدتي الدافئة المنمنمة بأحلام ومتمنيات عاقلة ومتزنة، تعرف حدودها ولا تتجاوز أبدا. أحلام تعجبني وأعض عليها بنواجذي، ولا أميل إلى التخلي عنها. إنها لا تتعدى ما هو ممكن ومتاح ، و تحميني من أن تنزلق قدماي نحو أغوار المجهول السحيقة. فقط أقوم بزيارات للعائلة بين فترة وأخرى، وأستقبل في بيتي ضيوفا، وأعتني بهم، كما أحضر لبعض الحفلات الخاصة والعامة ..ذلك يكفيني ويسعدني، ويبعث الدفء في القلب الصغير، الذي استمرأ اللعبة وتماهى معها بالشكل المطلوب. بيد أن شيئا واحدا يستفزني ويثير حنقي، إنها أحلام الليل، التي لم تطاوعني، ظلت عصية على الترويض، تفتح للنفس كوى على عالم آخر، كنت أظن جازمة بأنني انتهيت منه وطمرته في وهاد الذات العميقة، وراكمت فوقه الكثير من القناعة واليقين، حتى لا يناوش القلب والذهن مرة أخرى.
في الليل حين آوى إلى الفراش، وقد نال الجسد قسطه من الكلل المتراكم بسبب كثرة الأشغال، التي أنغمس فيها طيلة اليوم.. أتمدد على سريري لأنال جائزتي البسيطة، أنغمس تدريجيا في النوم بعد أن أتقلب في مهجعي لفترة محدودة ثم سرعان ما انتقل إلى العالم العصي على الفهم. أرى نفسي أرتدي بياضا. شعري مسبل على كتفي، ومن الأفق هناك رجل يتطلع إلي من بعيد.. أمضي نحوه مجبرة بخطى ثابتة وجلة، وفرحة في الآن ذاته.. كلما دنوت منه ابتعد. يصهل قلبي حزينا، يراودني إحساس بأن لا فائدة من المحاولة. أقف.ألتفت من حولي باحثة عن أي شيء يعيد لي توازني.. تظهر أمامي فجأة وردة عملاقة، أحاول تبين لونها، لا أستطيع. أتجاهلها، لكنني أجد نفسي مركزة عليها من جديد، فإذا بامرأة تشبهني تنبثق فجأة من عمق الوردة، تنظر إلي.. تلوح لي بيدها، أتمعن في يدها، فإذا بها تحمل كتابا، أفكر وأنا في أحضان الحلم، أحاول أن أفهم معنى لما أراه. يستعصي علي ذلك. تغادر المرأة محلقة، وكأنها نحلة امتلأت بالرحيق وغادرت نحو قفيرها. أحاول أن ألحق بها، لا أستطيع.. أجرب أن أناديها بصوت مرتفع. لكن الصوت يخذلني، لا يكاد يتجاوزني، بل لا يتجاوز حنجرتي. أشعر بحزن كبير، تنسل دموعي من محجري، أبكي.. يتملكني شوق عارم لمرافقة المرأة، أتحسر.. فجأة ينبثق الرجل، الذي رأيته سابقا، يظهر من عدم. يربت على كتفي. أندهش بحضوره، أمد يدي نحوه لأمسك به، وقد اعتورتني ارتعاشة الرغبة. لكنني لا ألمس شيئا. أنظر من حولي باحثة عنه..لا شيء.. لا شيء.. أشعر وكأنني أفقد نفسي، أضيع..أندثر، فإذا بي أهب فزعة من سريري. أركض نحو النافذة، أفتحها، أنظر نحو الشارع، في الأسفل، فأراه هناك ينتظر، يتطلع إلي بفضول..أفرح ..أخجل..أحاول أن أتوارى عن نظره.. لا أستطيع ...أصدق أنني غادرت الحلم، ,و أن الرجل الذي يستوطن عقلي الباطن قد حضر، وهو ينتظرني هناك على ناصية الشارع.. أعود إلى غرفتي ركضة أرتدي أجمل ملابسي لألتحق به. لكن ما إن أشرع في تسريح شعري ، حتى يهيمن علي الإحساس بأن ما رأيته مجرد وهم، وبأنني لم أغادر سريري البثة.. بيد أن طيف الرجل لم يفارقني، يظل مرفرفا في أجواء الغرفة، حتى أستيقظ صباحا. هذا الحلم أو شبيهه يراودني كل ليلة تقريبا باختلاف بسيط، حتى جعلني أومن بأن تحولا ما سيطال حياتي، حتى وإن تصرفت عكس ذلك.. لقد ظللت متمسكة برصانتي وتعلقي، ليس من الصواب أن أفقد طمأنينتي، وهدوء نفسي من أجل حلم يتكرر بمكر وإصرار، كلما أويت إلى فراشي