الوكالة العربية للصحافة أپاپريس - Apapress
مقالات
حوارات ألف حكاية ولون حوار مع الفنانة التشكيلية المتفردة - سناء الكشيري
هبّـت نسمة دافئة علينا، رقراقة و شفافة كروح فنانتنا الوديعة، بين أحضان اللون تسكن روحها الأنيقة بهدوء، و عبر ابتسامتها الغامضة تصارع عواصف الوحدة والفراغ، لتلد لنا لوحات تشكيلية متفرّدة، نسافر معها في خيالنا على مر العصور، إنها أطياف وعوالم تاريخية رمزية بنفس صوفي وفلسفي شاعري تحكي لنا عبره ألف حكاية ولون.
فنانتنا، شفافة كألوان الزّجاج التي تستخدمها في لوحاتها التشكيلية، تداعب بأحاسيسها الرقيقة الأنثوية عالما من الألوان العميقة، تحيلنا إلى لون التراب، لون الرّمال، لون الأفق البحري، ولون الشمس عبر خطوط دائرية و منحنية مائلة إلى الدفء، تصاحبها أطياف رمزية موغلة في الغموض كقصيدة نثرية تسافر على مر العصور تعانق الحضارات الغابرة، معها نعشق البعد التجريدي والهندسي الرمزي، الذي تزرعه لونا جنوبيا في أرض القماش الصعبة المنال، لتتحداه هي، وترجعه فراغا مبدعا، متفردة في رقصة ريشتها التي تشبه روحها تماما، هادئة في ظاهرها، بركانية في عمقها.
تتوجّه الفنانة التشكيلية المبدعة سناء الكشيري إلى بحر " الاوداية " لتناجي زرقته الندية وتلامس برجليها الرقيقتين، رماله البنية الذهبية، لتسافر بعيدا بخيالها في سيمفونية الطبيعة الراسخة في روح لوحاتها وذاتها التشكيلية والإنسانية. هنـاك تنظـر فنانتنا الشابة إلى " كوكياجة" في يديها الرقيقة، تقربها إلى أذنيها لتسمع صفير الرّيح وهي توشوش لها عن سرّ البحر و الوجود، فعندما كانت طفلة تصطحبها والدتها و والدها ( المحبان للشعر والفن عموما، اللذان ساعداها في إبراز موهبتها بشكل كبير، خاصة والدها المثقف والمتذوق للفن التشكيلي مصطفى الكشيري) إلى بحر الرّباط، لتلعب وتمرح كباقي الأطفال في مثل سنها، لكنها تلعب قليلا و تنزوي كثيرا كي تتأمل البحر بعمق، مفتونة هي به و "بالاوداية" تتخيل عبرهما بنظرة رومانسية ألوانا تناجيها هناك، في ذلك الخط البحري الموغل في العمق.
كبرت سناء وكبر معها حبّها للبحر و اللون، أكيد لم تدرسه، لكنها تعلـّمت أسراره من الطبيعة والحياة، هي لا تتزين غالبا، ولكنها تزين اللوحة بدلا عنها كأنها هي ظلها الوحيد كأنها مرآتها الباطنية ترى نفسها فيها، لقد تعلمت أن تعشق اللون بتلقائية ووعي، لتناسق بين ألوانه المائلة للدفء في لوحاتها المتفردة كدفء روحها، فأصبح اللون صديقها الحميــم، تبثـّه أحلامها وتعثراتها ورؤاها.
الفنانة التشكيلية المبدعة سناء الكشيري معنا اليوم في حوار، لنقترب أكثر من عوالمها اللونية الأصيلة، لنعلم سرّ هذا الجمال اللوني في لوحاتها ورموزها التجريدية الفلسفية الصوفية، التي تحيلنا إلى رموز أسطورية وأطياف تاريخية نسافر معها بشوق على مر العصور، وذلك لنتعمق أكثر وأكثر في وجودها الإنساني.
• بعد التحية الوجدانية لروحك الندية فنانتنا الراقية، حدّثينا عن أول خطوة لون في مسارك الفني التشكيلي، وعن من اكتشفك ودعمك في موهبتك الجميلة هذه؟
• يتحدد مسار الفنان عند توقفه عن عملية الإبداع. و ولوجي إلى عالم التشكيل كان في الأمس القريب. ابتدأ من الدراسة وذلك من خلال حصة للتربية الفنية حيث كانت تجذبنا نحن الأطفال آنذاك كثرة الألوان و الأقلام فكنا شغوفين بكل ما له علاقة بالرسم فكنا نتنافس على انجاز التمرين الذي كنا ملزمين به على أحسن وجه و بالموازاة مع ذلك كان منزلنا يتوفر على كتب و مجلات تهتم بالفن التشكيلي على اعتبار أن والدي له اهتمام بالمجال الفني و خاصة الفن التشكيلي و هو نفس الاهتمام الذي لاحظه والدي لدي فحرص على برمجته في وقتي الثالث ووفر لي ما يلزم ذلك من أدوات الرسم و الصباغة و الكتب و المجلات المتعلقة بالفن التشكيلي. فلوالدي عظيم الفضل في إبرازه لموهبتي و تشجيعي على الاستمرارية في هذا المجال بالرغم من الصعوبات التي تعترضني أحيانا بحكم التزاماتي بالمقررات الدراسية في الثانوية و الجامعة.
• كفنانة تشكيلية، أكيد مررت بعدة محطات أوصلتك في النهاية إلى الاختيار بوعي وثقافة فنية هذا الشكل المتفرّد التشكيلي الذي تشتغلين عليه وتطورينه يوما بعد يوم، و الذي أضحى معروفا عنك، أذكري لنا أهم هذه المحطات الفنية التي مررت منها وأثـّرت إيجابا على فنك الرّاقي؟
• في الحقيقة أن اختياري لان أكون عصامية كان بسبب الواقع الاجتماعي الملتبس للفنان بصفة خاصة, فقد اخترت شعبة دراسية بعيدة عن معاهد الفنون لكنها لم تمنعني من ممارسة هوايتي الفنية التي شغفت بها منذ أقسام الابتدائي و الإعدادي حيث احصل على المراتب الأولى في تمارين و امتحانات التعبير الفني, فقد كنت مداومة على الرسم و الصباغة و كنت أتابع جديد الأعمال و الأخبار الفنية من خلال الجرائد و المجلات والقنوات المتخصصة على قلتها. و لم أكن اقتنع بتقليد الآخرين بل كان هاجسي أن أكون مبدعة و أن اكسب خبرات و مهارات لا تقل قيمة من تلك التي تمنحها معاهد الفنون التشكيلية.
و قد كانت مشاركتي في المعرض الجماعي "نظرات متقاطعة" الذي نظمته نقابة الفنانين التشكيلين المغاربة في 2008 بالرواق الوطني باب الرواح محطة الاعتراف بي كفنانة واعدة، أشكر عليها الفنان الكبير محمد نبيلي مع ثلة من الفنانين المحترفين الذين لمسوا في لوحتي التي شاركت بها ظاهرة فتية جديدة. وهذا ما دفعني إلى الحرص على الاستمرار في البحث و التجارب و تقديم أعمال جيدة ساعدني على عرضها جمعية منتدى الشباب للفن التشكيلي فراكمت ما يناهز 40 معرضا جماعيا توجت باختياري في مسابقة الملتقى الوطني للفنانين التشكيلين الشباب التي نظمتها وزارة الثقافة بقاعة محمد الفاسي بالرباط سنة2011.
وقد نوهت لجنة التحكيم بأسلوبي المتفرد وسط المجموعة المختارة من الشباب المشاركين خريجي معاهد الفنون التشكيلية فقد كنت العصامية الوحيدة في هذا الملتقى الوطني.
• أوغل الكثير من الفنانين التشكيليين في متاهات اللون الفلسفي التجريدي، التكعيبي، السريالي، والتجسيدي.. هناك من فشل في إيجاد مفتاح التفرد، وهناك من وجده عبر رؤية فنية واعية، وأرى أنكِ متفردة تشكيليا، ترى ما هي آفاق رؤيتك الفنية الخاصة ؟ وفي أي خانة إبداعية تضعين لوحاتك التشكيلية؟
• باستثناء بعض الرواد مثل الغرباوي و الشرقاوي لم يتم تصنيف أعمال الفنانين التشكيلين المغاربة, ربما يرجع ذلك إلى قلة الكتابات الفنية و ندرة النقاد الفنيين من عيار أستاذ تاريخ الفن المعاصر عزوز طنيفس و أيضا إلى صعوبة تصنيف أعمال فنية لفنانين لازالوا يمارسون الإبداع.
و إن كان و لابد من إشارة إلى تصنيف أعمالي, فإنها تدخل في إطار التعبيرية أسعى من خلالها التعبير عن إحساسي و بصرياتي بما اشعر به و أعيشه في محيطي حسب مهاراتي و إمكاناتي, فالذي يريد تصنيف أعمالي الفنية لا بد انه سيتوقف عند الأدوات الدلالية و الرمزية التي استقيها من هويتي المغربية بكل تجلياتها الحضارية و مرونتها الثقافية و الجمالية و ذلك بأسلوب تتقاطع فيه الأبعاد و تتداخل فيه الأحجام يرتبها اللون البني بمشتقاته.
الفن التشكيلي هو لغة تواصل كونية فجميع المخلوقات مؤهلة لتلقي الإشارات و الرموز و الحركات و الألوان و سيظل التعبير التشكيلي أرقى اللغات البشرية. و الفنان السوي هو الصادق مع ذاته و مع محيطه, يعبر عن إحساسه و رؤاه بماله من قدرة و إمكانيات، و سر التفرد عند الفنان هو معرفة قدرته التعبيرية و ربط اجتهاده بطاقته الإبداعية و التخلص من التتبع الأعمى لخطوات الآخرين و ممارسة العملية الإبداعية في استقلالية عن الهاجس المالي الذي يعرقل الملكة الإبداعية.
فالاجتهاد للانخراط في سوق الفن التشكيلي يعطي أعمالا فنية جميلة عادية تطغى عليها النمطية و التقليد و تخترقها سلوكات مشبوهة تتحكم فيها المضاربة و الربح السريع.
و الفرق بين الفن السوقي و الفن الإبداعي واضح كما أن من بين محبي الفن و مجمعي اللوحات من يقتني مجموعة من اللوحات المتميزة لفنانين محترمين يجمعهم التميز في العملية الإبداعية.
• اللـّون و تشكّله كحقيقة لونية في إطار اللوحة التشكيلية، هو تعبير عن رؤية فنية راسخة في فكر وذات الفنان التشكيلي المبدع، يبث فيها أوجاعه وأحلامه وخيالاته، ترى كيف تستطيعين إدراك النوع الفني مقارنة مع الكمي في دائرة المعارض عموما؟ وما هي قناعاتك بخصوص الواقع الفني التشكيلي المعاصر بالمغرب؟
• الساحة التشكيلية المغربية تزهر بالإبداعات الفنية خاصة الشبابية و ذلك بسبب تراكم تجارب الرواد و تبادل المعارف التي تتيحها العولمة عبر قنوات التواصل الحديثة و أيضا بسبب شساعة حرية التعبير الفني التي يتمتع بها الفنان مقارنة مع باقي حريات التعبير الأخرى.
لقد أصبح الفن التشكيلي المغربي مطلوبا في الداخل و الخارج و خصصت له قاعات للعروض و قاعات للبيع والمزاد العلني و أصبح مقتني اللوحات الفنية يتسابقون لجلب و امتلاك إبداعات مغربية و هي ظاهرة صحية لكن بعض المفسدين يستغلونها في حصر الفنان في التقليد و السرقة و التزوير و هم بهذا يحطون من سمعة الفن التشكيلي المغربي.
لذا يجب إصدار قانون الفنان التشكيلي تراعى فيه شروط الإبداع و التصنيف و تسن له مسطرة المعاملات و الرواج وتوضع له جزاءات للسرقة و التزوير.
فالساحة الفنية المغربية في حاجة مستعجلة للرفع من قيمة الإبداع و جعله رافعة للتنمية البشرية. فمردودية التنشيط الفني محدودة في الزمان و المكان و محصورة في الترفيه اللحظي لا ترقى إلى مستوى القياسات العالمية للمواهب و الابتكارات.
• يقول الناقد التشكيلي فريد الزاهي : " التجريدية الهندسية: ترجع أساسا إلى الأعمال التي منح فيها أحمد الشرقاوي ( رائد من رواد الفن التشكيلي) حظوة كبرى للعلامات والرموز المنتمية للتراث الشعبي.." فهل ترين معي أن لوحاتك تدخل في هذا الإطار الفني التراثي الذي يعكس هويتنا المغربية؟ أو أنها أكثر عمقا واتساعا في دائرتها التشكيلية وتلامس وجدان وتراث الإنسانية جمعاء؟
• الرائد احمد الشرقاوي اختار ولوج عالم الفن التشكيلي بشغف كبير للإبداع فقد كرس مهارته لخلق أسلوب خاص به نابع من أصالته و هويته المغربية بعيدا عن آفة التقليد و النمطية. و لابد لكل فنان حقيقي أن يستحضر روح الفنان احمد الشرقاوي فينقب عن أصالته و هويته و يغرف منها أسلوبا متميزا قابلا للتواصل بينه و بين أفراد مجتمعه و من ثمة بينه و بين الأخر في كل مكان فالأصالة تجمع بين الوطنية و العالمية.
فالمغرب غني بمرجعياته العربية و الأمازيغية و الإسلامية و العبرية و ملتقى لكثير من الحضارات القديمة و الحديثة و بديهي أن يخلق أدمغة متطورة شريطة إبعاد المفسدين و الأنانيين ضعيفي الميول الوطنية.
فالمغربي ميال إلى العيش في وئام و سلام و قادر على المساهمة الفردية و الجماعية لتنمية بلاده و المساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية و منه الفنان التشكيلي الذي يسعى بتلقائية إلى التعريف بهويته و التشبث بمكتسباته الحضارية ساعيا إلى نشر ثقافة الجمال و إثارة ما أسعى إليه بأسلوبي الفني الذي اخترته في إطار التعددية و الاختلاف و كباقي جيلي اطمح في فتح الأبواب و بسط الطريق أمام مهارات الإبداع و لاشك أن هذا من أولويات المواطنة و هاجس كل فنان يعي معنى الهوية و الأصالة.
• يقول محيي الدين ابن عربي : " فالكامل من عظمت حيرته ودامت حسرته ولم ينل مقصوده " فهل ترين معي أنك وصلت إلى المبتغى في الفن التشكيلي ووجدت اللوحة التي تبحثين عنها أو مازلت في طور البحث؟ كلمة أخيرة لمتتبعي فنك ؟
• الفن ليست له قمة بل خطوة غير مكتملة, و هولا يموت, قد يصاب باختلال و قد يتعرض للاضطهاد لكنه حي, و الفن التشكيلي هو تعبير عن إحساس و رؤى تتجدد و تتدفق ما دامت الحياة حية. واللوحة الفنية هي لحظة تعبير غير جاهزة.
أشكرك زميلتي الفنانة سعاد ميلي على إتاحة هذه الأجوبة لأسئلة فنية التقطتيها بل فجرتيها في غفلة من التأمل و مراجعة الذات و التطلع إلى مستقبل زاهر. وأتمنى أن أكون خفيفة على ذكاء المتتبعين وكم من متتبع أكثر فنا من الفنان نفسه.
تعليقات القراء