سنة 1505 - وفاة الفقيه الإسلامي جلال الدين السيوطي سنة 1801 - غادرت الحملة الفرنسية الأراضي المصرية بقيادة "مينو" سنة 1863 - افتتاح دار الآثار المصرية القديمة في بولاق سنة 1907 - اتفاقية لاهاي الخاصة بحل النزاعات الدولية سلمياً سنة 1970 - استقالة الرئيس السوري نور الدين الأتاسي من جميع مناصبه التنفيذية والسياسية سنة 1970 - وفاة عبد الكريم بلقاسم رئيس حكومة الثورة الجزائرية المؤقتة سنة 1983 - أقيمت عملية تفجير في مقر المارينز الأمريكي في بيروت. سنة 1954 - اتفاق بين مصر وبريطانيا على إخلاء القواعد العسكرية البريطانية في منطقة السويس. سنة 1918 - بلجيكا تحتل الكونغو. سنة 1918 - فرنسا تستولي على لبنان. سنة 1948 - جلوس الإمام أحمد بن يحيى إمام اليمن. سنة 1995 - ماليزيا تطالب بإلغاء حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي.
كُتب بواسطة: محمد الغربي عمران، ونُشر بواسطة:
أبابريس شوهد 1746 مرة، منذ تاريخ نشره في 2013/05/12
أفق ثقافي يخلخل المركز والهوامش ليعيد ترتيبها
فردوس
كثيرا ما فكرت بزيارة المملكة المغربية.. يشدني إليها أولئك الأدباء الذين التقيهم في ملتقيات عربية تعنى بالإبداع السردي كالقاهرة ..الرقة ..عَمْان.. الشارقة ..الجزائر ..طرابلس ..جدة والخرطوم .. من أمثال : سعيد يقطين.. شعيب حليفي.. أنيس الرافعي.. سعيدة تاقي.. ابراهيم الحجري.. محمد عز الدين التازي.... مبارك ربيع.. أو من ربطتني بهم صلات إبداعية عن بعد مثل تبادل الكتب والمراسلات مثل : الزهرة رميج.. مصطفى لغتيري.. عبدالله المتقي.. حميد ركاطة.. عبدالمالك أشهبون.. فاتحة مورشيد.. أو من نقرأ لهم :محمد برادة.. بنسالم حميش.. الخ تلك الأسماء. وكذلك شدتني لزيارة المغرب متابعاتي للمشهد الإبداعي المتنامي ..ذلك المشهد الملفت بتطوره النقدي المطرد.. والذي تميز عن بقية الفضاءات الإبداعية في الأقطار العربية بتعدد منابره وأنشطته..وكذلك اشتغالات التجريب في السرد القصصي القصير جدا .
إضافة إلى رغبتي بالتعرف على طبيعة المغرب وخصائص مدنه ومناطقه: كمراكش بساحة الفناء ..طنجة الخبز الحافي.. فاس بتاريخها. سنوات من الشوق. ليأتيني الصديق حسن البطران من المنطقة الشرقية بالسعودية بخبر تنظيم مهرجان للقصة القصيرة جدا بمدينة الناظور المغربية .. ويبشرني بأن دعوتي جاهزة لديه .. ثم يلي ذلك مفاجأة أخرى .. خبر من الصديق المبدع أنيس الرافعي بدعوتي من قبل وزارة الثقافة المغربية للمشاركة ضمن برنامج معرض كتاب الدار البيضاء في مارس 2013.
ويا للروعة أن تصلني دعوتين في وقت واحد.. سنين من الانتظار وفجأة يهطل العطر مدرارا.
أخذت أعد العدة للسفر .. أخطط لزيارة مدنه.. التقي بالأصدقاء.. أحقق كل ماكنت أفكر به .. ابتداء بالمشاركة في مهرجان القصة قصيرة جدا بمدينة الناظور..تلك المدينة التي لم أكن قد سمعت عنها .. لجأت إلى الشبكة العنكبوتية..بحثت عن موقعها.. الطرق التي ستصلني بها.. عرفت أنها إلى الشرق الشمالي على سواحل الأبيض المتوسط.. حشوت حقيبتي بنسخ من أعمالي القصصية والروائية.. كنت أشعر بشهقة طفل يكتشف كوكبا جديدا.. ليهبط بي الحلم في الدار البيضاء.. وفي صالة الوصول لاحظت ذلك الاكتظاظ.. بشر من مختلف القارات.. ملامح أسيوية وأوربية وإفريقية .. أعطاني ذلك المنظر فكرة أولية عن هذا البلد.. وأن وجود تلك الأجناس دليل على استقرار وأمان وحرية البلد .. وإلا لما تدافعت تلك الجموع لزيارته.. وجدت معاملة ودودة من موظفي المطار.. عبرت إلى الصالات الداخلية ..كل شيء سلس.
تقودني إرشادات الصديق بشير زندال المقيم للدراسة في الرباط أينما تحركت.. والذي نبهني إلى أشياء كثيرة عند لقائي به في اليمن.. ركبت القطار المتجه إلى البيضاء.. هالني منظر السهول المنبسطة المغرقة في الخضرة.. لم أكن أتخيل أن تستقبلني المغرب بذلك التطرف السندسي .. حقول القمح على مد البصر.. أشجار الزيتون الحمضيات عرائش الكروم.. لا توجد مساحة للتراب العاري.. أبقار وخيول ترعى.. وقطعان الأغنام بالكاد تظهر رؤوسها وسط سنابل الحقول.. السماء ملبدة بالغيوم تمطر دون مقدمات .. شدني كل ذلك..لأعيد ترتيب ما كنت قد تصورته سابقا. كنت أعتقد بأن المغرب بلد في طبيعته بالأكثر كسورية. بها أراض خضراء.. لكن ليس إلى هذا الحد!
الأمازيغي النبيل
توقف القطار في محطة المسافرين بالدار البيضاء.. خرجت من الحطة.. ساحة واسعة ومنسقة.. حديقة صغيرة تتداخل بها مسارب السيارات وسكة حديد الترام.. على أطرافها انتصبت مبان عالية .. الثالثة عصرا- صنعاء الآن غشاها مغيب الشمس- خرجت أبحث عن وسط البلد..السوق القديم.. دائما هذه هي وجهتي عند زيارة أي مدينة.. لا أعلم ما يقودني إلى كل ما هو شعبي وقديم.. ومزدحم.. لكني أجد نفسي في تلك الأماكن.. لا أعرف عما أبحث فيها! هل أبحث عن نفسي؟ أم أبحث عن طريقي لمعرفة الأخر .. ركبت الترام .. ترام جديدا لم يمض عليه أكثر من سنتين منذ استحداثه في البيضاء..عبر عدة محطات حتى وسط البلد -ساحة الأمم- . مبان شاهقة.. مقاعد المقاهي تفترش الأرصفة.. لا أعرف ما حاجتهم لكل تلك المقاهي.. فبين كل مقهى ومقهى تجد مقهى..أرصفة عريضة ومشجرة.. أشجار باسقة.. مقاعد رخامية تؤثث تلك المساحات الواسعة جدا.. الشوارع تتقاطع لتذهب في كل اتجاه..سألت أحدهم عن باب مراكش.. كان ودودا وهو يشير باتجاه الطرف الآخر لساحة الأمم.. حيث برز سور أصفر قديم وبوابة بأقواسها المغربية المميزة.. أشار لي قائلا: تلك هي أسوار المدينة القديمة..ومن تلك البوابة يدخل من يريد السوق القديم(باب مراكش).
عرفني إلى أسمه أحمد شاور.. يعمل مع أخيه في محل لبيع أدوات الكهرباء.. وأنه يتنزه بعد أن أكمل عمله اليومي.. ومن أجل إزالة أي ارتباك من مصاحبته دعاني إلى طبق حلزون مسلوق.. ذلك الكائن الصدفي الرخوي الصغير الذي يعيش على سيقان الشجيرات والنباتات في المناطق الرطبة-وما أكثرها في المغرب- تحول إلى طبق شعبي مغربي.
عربة ينتصب فوقها دست كبير.. تتصاعد منه أبخرة وروائح شهية.. وقفنا جنبا إلى جنب مع من يتناولون ذلك المسلوق من أوان خزفيه .. يخرجونه من صدفته بعيدان مسننة أو دبابيس..يلتهمونه بتلذذ.. يرتشفون شربته المتبلة بأعشاب عطرية.. يروج أن ذلك الكائن الرخوي يزيد من الرغبة والطاقة الجنسية.. ويبعث في الجسد الدفئ والحيوية..خاصة في ليال الشتاء القارص. أكملنا طبقينا.. تركنا بائع القواقع..ولازال طعمه اللاذع بفمي.
دخلنا تحت قوس بوابة مراكش.. نساء سنيغاليات يفترشن مساحة من مدخل السوق الداخلي.. يتفرسن في كل من يدخل.. يعرضن مهاراتهن في ظفر الشعر.. عكفت بعضهن على رؤوس بعض النسوة.. أخريات على رأس فتاة أوربية وقد استسلمت في دعة.. يظفرن الشعر ظفائر إفريقية رقيقة .. أشهرت عليهن كميرتي فتصارخن رافضات ما أنوي فعله..امرأة ضخمة نهضت باتجاهي.. سحبني أحمد .. تعمقنا بعيدا في تفرعات زحام لاينتهي.. نساء مغربيات جلسن جانب نهر الشارع يعرضن قدراتهن على نقش الحناء.. أنهمكت إحداهن برسم خطوط على ظهر عارٍ لفتاة لم يتبين وجهها لكن بشرتها شمالية..لا أحد يكترث لأحد.. فتيات متأنقات وأخريات كالحوريات بملابسهن الضاغطة.. لا أحد يكترث حتى بالنظر.. سوق متشعب مليء بمشغولات جلدية وفضية ومنسجوات مغربية.. سوق يفضي يفضي إلى تشعبات أسواق صغيرة.. حرف ومنمنمات.. سوق خاص بالأفارقة وأغانيهم ومشغولاتهم وألوانهم.. تراهم في ضيافه محلاتهم الصغيرة ومعروضاتهم المتنوعة: زواحف متيبسة وعروق أشجار ومنحوتات خشبية وغير ذلك .. سوق مجاور للخياطين ومشغولات الحقائب..وآخر للخضار والفاكهة.. وثالث للنحاس.. ورابع وخامس .. أنه سوق يقنعك بأن لانهاية لتسلسه وتناسله.. بعضه مسقوف وآخر مكشوف.. نسينا الوقت وأحمد يسير بي شارحا كل منظر وكل زاوية وتفرع.. حتى خرج بي من الجهة الثانية.. لتظهر أمانا منارة مهولة الحجم والطول.. أطلت من خلف المباني القديمة..سألت أحمد.. فأشر:أنها منارة مسجد الحسن الثاني.. عارضا علي أن التوجه نحوه .. ويالعظمة ما رأيت.. لم يكن بالحجم الذي أراه على التلفزة .. صرح يشمل على مساحات محيطة واسعة.. بل أستطيع ألقول بأنه مجمع كبير لعدة مبان وعدة حدائق وساحات ..أضعاف ما توقعته.. وليس فقط ذلك المبنى الذي يظهر بمأذنته السامقة ككتلة تطل على الأطلسي.. بل أن الفراغات واسعة وقد وزعت إلى حدائق تلتحم بالأحياء المحيطة به من جهة وأخرى بالبحر .. أحواض الزهور ما تدهش الزائر وقد توزعت في الزوايا والممرات وتلك الفضاءات المنمقة بالرخام ولوحات الفسيفساء.. مباني ملحقة بالمسجد كل مبنى غاية في الجمال والأبهة.. ومن اتساعه شقوا أنفاق من تحت تلك الحدائق والمباني لتسير السيارات باتجاهات مختلفة تحت مبانية وحدائقة وساحاته لتصل إلى أحياء المدينة المحيطة به .. أناس من كل الأعمار فتيات كثر وفتيان يجوبون أطراف وحدائق وساحات المسجد .. البعض يطل على هدير الأطلسي.. آخرون على الحواجز الطرفية.. شباب حبيبة ينكفئ كل إثنين على بعضهم وقد أداروا ظهورهم غير عابهين بأحد إلا وجودهم..فتراهم في صلاة من السكون والتلاحم..وآخرين يروجون للممنوع وباعة الحلوى والفشار والكعك والشراب.
أسأل نفسي أين أنا ؟ هنا لقاء التناقضات الروحية والمادية.. لقاء الفن بنقائضه.. لقاء لايشبهه أي لقاء.
هناك في الأفق أخذت الشمس تدنو لتلامس شغاف الأطلسي.. كل شيء صمت إلا هدير الموج وصوت المؤذن .. وما هي إلا لحظات حتى تحركت تلك الجموع من أطراف البحر ومن على حدائق وأطراف ساحات المسجد.. الجميع باتجاه مداخل المسجد.. لم يبق لا الأحبة ولا مروجي المتع أو الباعة.. الجميع اتجه نحو النداء الذي أخذ يتردد داعيا للصلاة.. الجميع كمن أخذهم مغنطيس يسيرون بجلال لتفرغ الساحات والحدائق إلا من ضوء المصابيح ينعكس على رخام الفضاءات وفسيفساء الجدران العالية.. اتجهت وأحمد باتجاه الداخلين.. جلال ومهابة سكنت روحي وأنا أدلف عبر بوابة ضخمة نقشت بنقوش إسلامية متداخلة بالبرونز والعاج وأحجار لم أرى مثيلها .. سقوف عالية أعمدها كأنها مبان سامقة تحمل السقوف .. كل شيء مبهر بما يحمله من خطوط وألوان وزخرف ومخرمات..كل شيء هنا يحتفي بفنون فريدة .. لم أر موضع إبهام إلا وترك عليه الفنان من روحه.. صدى الأصوات تتردد خشوع تلاوة المقرئ .
لم أنسى أن أصلي لأبي .. أن تدور عيناي ليرى بهما أرجاء ذلك الكم المهول من الفتنة النشوى.. استحضرت أحبتي إبتداء بوالدي.. وأمي وعماتي .. وأجدادي وأعمامي.. استحضرت رفاق الطفولة من قريتي .. زملاء محطات الحياة من مبدعين.. من أحببني وأحببتهن.وأنا صالي ورأسي يدور وعيناي تتشبع بذلك الوجود المسكر.. أنهيت صلاتي مرسلها هدية إلى من أحب من رحلوا ومن ينتظرون.
جلال وكمال ..وبهجة أن تصلي فريضة في مسجد مثل مسجد الحسن الثاني ووشوشة الموج تداعب مسامعك.. أن تستحضر أحبتك وتحاورهم وتجعلهم يروا ذلك الجمال بعيونك: والدك والدتك.. عماتك.. أعمامك.. جداتك وأجدادك.. ومن لهم حق عليك في مسجد يلامس ذلك الألق والفيض.. اللهم تقبل منا صلواتنا وهدايانا إلى أروح أحبتنا من يسكنون أرواحنا وحواسنا منذ فارقونا وحتى نلتقيهم.
خرجت من المسجد أحمل روحا مشبعة بإحساس رقيق وجميل.. وقد أمتلأت الساحات المحيطة والحدائق بأنوار المساء.. سكينة تسكنني وهم يرافقهونني أرواحا غير مرأية ..أحمد يتعجب من صمتي.. ليسألني عما بي .. في البدئ احترت .. كيف أخبره؟ لكن وجدت لساني أمام نظراته يخبره بان أرواح أحس بها تسايرني .. ردد علي أسئلة حول معنى ما أقول.. كنت صادقا .. وأنا أحاول أوصل الفكرة إلى عقلة.. فانا مؤمن بأن تلك الأرواح التي أحبها وتحبني لا تأتي حين أصلي لها .. وأني بهداياي لها من صلوات وأدعية ومناجاة تقترب حتى أن بعضها يسكنني.. لتشاركني اللحظة.. وأنها قوة تعطي ولا تأخذ.. قوة المحبة في روح أمي وأبي وعماتي وأعمامي وجداتي وأجدادي.. أنا أحس وأدرك تحلقهم حولي.. ولذلك أصلي في مساجد أراها تليق بمحبتي لهم..في مدن أسافر اليها لأهديهم بها هداياي لهم.. أينما أكن ..ومتى سهوت أو انشغلت أشعر بالكدر .. وينبهني ذلك الضنك الذي يغشاني.. فأصلي وأصلي لتلك الأرواح هدايا مرسلة .. ليكونوا بصحبتي.
خرج بي أحمد من تلك الصروح..لا أعرف هل أوصلته الفكرة .. أم أنني فاشل في التواصل مع الأحياء ؟! سار بي في شوارع تزدحم بالمحلات التجارية العصرية..المرأة في كل مكان.. تراها في المقهى.. في المطعم تشتغل.. تسوق موتوسيكل.. تبيع في المتاجر.. إلى جوار الرجل بلباسها العسكري.. الليل أخذ يحكم قبضته والمقاهي تزدحم .. تلك المقاهي التي جعلتني افكر بأن المدينة ماهي إلى مقهى كبير.. وتلك الأرصفة المرتبة والواسعة والمزينة بالأشجار والنباتات المزهرة وتلك الحدائق أن المدينة ما هي إلا جنينة واسعة كل شيء هنا يأخذ مداه .. مضى بنا الوقت وأحمد يعرفني على أسماء الشوارع والساحات والحدائق والأحياء والمباني .. وفي كل مرة نتناول أو نشرب شيئا يبادر إلى أن يدفع.. فأصده خجلا.. حدثته إلى سبب قدومي إلى المغرب ..وأني أنوي السفر إلى الناظور اليوم التالي لأحضر مهرجانها القصصي.. بادر إلى نصيحتي بالسفر توا .. كانت التاسعة مساء.. سألته من أني سأسافر باكرا .. قال إن المسافة كبيرة.. أكثر من إحدى عشر ساعة .. ذهب بي إلى المصلحة الطرقية(محطة الحافلات) وودعني بعد أن أطمأن علي حين تحركت الحافلة كانت العاشرة مساء.
شكرا أحمد شكرا لأخلاقك وكرمك..أيها الإنسان المغربي الرائع.. شكرا لروح لن أنساها حين جمعتنا الأقدار لست ساعات فقط.. أشعرتني بأني أعرفك منذ سنوات بعيدة..وأنك قريب أو صديق.. لقد عبرت بي طيبتك وروعة أخلاقك حين وضعت أقادمي في أول مدينة أزورها في المغرب.. قدمت لي الإنسان المغربي بكل روعته وكل نبله وسمو إنسانيته.. لقد لخصت في شخصك ذلك الشعب العريق بأخلاقه.
الناظور عاصمة القصة القصيرة:
خرجت بي الحافلة عبر شوارع الليل.. مباني بهيجة البياض بأضوائها .. أضواء تداعب كوة السماء.. مقاعد الحافلة تحتلها الفتيات وقلة من الشباب والكبار والأطفال.. هي المرة الأولى الذي يلفت انتباهي حضور المرأة رأيتها أثناء مرافقتي لصديقي أحمد في الشوارع بأناقتها وحضورها.. لكن الآن يقارب منتصف الليل ونحن على سفر.. ومقاعد الحافلة امتلأت وأكثرهن فتيات.. هذا هو الجمال معبأ في عربات..هن خفافا كما لو كان ينتقلن من حي إلى حي.. لايحملن فوق شعورهن أغطية ..حتى الملابس ملونة وأنيقة الجميع كما لو كن في حفلة .. ملامحهن مرحة.. عبرت بنا الحافلة ليلا من محطة إلى أخرى يهبط أناس ليصعد آخرون .. عدة تجمعات سكانية صغيرة .. مدن كبيرة توشي بها أنوار الشوارع والساحات النظيفة.. فاس .. مكناس ..خنيفرة .. لتتوقف الحافلة في الثانية بعد منتصف ليل قارص في محطة جلها مطاعم .. تصطف أنوارها جنبا إلى جنب للحوم الأبقار والخرفان المشنوقة..تتخللها أدخنة الشواء وابتسامات الطباخين..
دسوت الطبخ تتربع على عروشها.. طواجن البخار بمخروطيتها المميزة.. جنبا إلى جوار سنانير شواء الفحم.. أطباق سلطة الخضار.. هذه المحطة كانت أولى محطات مواجهاتي مع الأطباق المغربية.. ألوان .. روائح..أشكال. كرنفال في أرض محايدة عن المدن الكبيرة.. أسأل نفسي لماذا أختار المطعم المغربي أن ينازلني في أرض لم أتوقعها ..كنت أستعد أن أجول في مطاعم إحدى المدن كالدار البيضاء.. الرباط .. الناظور التي تقودنا الحافلة إليها .. استبدت بي تلك الروائح والمناظر التي أثارت مارد الجوع بداخلي .. تلك المقاعد حول الطاولات امتلأت بالركاب الهابطين من عدة حافلات.. انزويت جانبا أعيد ترتيب قناني زيت الزيتون وتوابل الصعتر والحار وأخرى بروائح مختلفة .. حاورت النادل بالكاد أفهمته.. قدم لي قليلا من الكسكسي.. خضار ولحم .. شربة الحريرة.. سيخين مشوي.. لم يبق شيء إلا وقدم منه كمية قليلة..أتذوق برغبة كبيرة.. أريد أن أكتشف كل شيء.. يرمقني النادل عن بعد وهو يخابر زملاءه..ترى ماذا كان يقول؟ ..لا علي أكملت ذلك التنوع اللذيذ الذي لم تألفه معدتي ..رفعت يدي طالبا شاي.. ليقدم لي (أتاي) شاهي بالنعناع .. بل أسميته مشروب النعناع الساخن.. كوب ملئ بأغصان النعناع مع قليل من الماء المغلي ووريقات شاهي أخضر.. أغرب وألذ مشروب شربته.هو المشروب الشعب في المغرب.
نصف ساعة تحاورت خلالها مع الأطباق المغربية الشعبية.. قد أكون تعرفت إليها.. أو كنت واهما.. ثم انطلقت الحافلة وسط ظلام تثقبه أنوار تجمعات سكاني هنا وهناك. البرد يشتد ما يترك على أسطح نوافذ الحافلة تكثفت عليها طبقة من البخار الكثيف.أخذني ملاك النوم لا أعرف كم لكني صحوت
ليفاجئنا الغسق بوهجه البارد.. رويدا رويدا تكشفت لي تلك الهضاب والسهول الخضراء.. الأشجار الصنوبرية.. أسراب الطيور.. حقول متنوعة لفول الصويا وعرائش الكروم ..أشجار التين والخوخ .. لا أعرف لماذا هبط عليَ سؤال :أيعقل أنني في المغرب..وأنه بهذا الجمال؟! ما يقارب السفر من تسع ساعات وطغيان الخضرة يلاحقني.. لم أكن أتصور أن أستطيع الوصول إلى ذلك الحلم.. وأن أعيش هذا الصباح الذي يبعد عن موطني آلاف الكيلو مترات.. وأن يكون صباحا بهذا السندس من الإزهار الذي يغطي الربوات والسهول .. تكاثرت أسراب الطيور.. بل أرى الفراش بوضوح .. كل شيء يتواطأ مع إنسان هذه الأرض.. حتى تيقنت بأنه أروع جنايني.
أشرقت تلال الناظور بمبانيها البيضاء وهي تنسال على منحدرات خضراء.. دخلنا شوارع أنيقة بنظافتها واتساع أرصفتها.. فاجأنا غفوة فندق (ليكوس) القابع بشارع الجيش الملكي .. أيقضناه. يالبهجة صباح صديقين من ليبيا .. الشاعر الكبير جمعة الفاخري والناقدة القاصة غادة البشتي ينتظران في صالة الاستقبال.. عرفت بأنهما للتو وصلا على قطار الفجر.. غادة طفولية الروح إمرأة لا تشبهها امرأة.. شفافة التعبير جميلة التعامل..أو قل صادقة التعامل.. عرفتها في لقآت أدبية سابقة .. متخصصة في النقد الجمالي للنصوص.. بارعة في صياغة القصة القصيرة جدا. ولست هنا أوفيها حقها.
لنخرج ثلاثتنا في جولة صباحية في أسواق المدينة.. نشرب القهوة في مقاهيها.. نزور معالمها.. جمعة الفخري من الشعراء الكبار في ليبيا.. يكتب القصة القصيرة جدا باقتدار.. له نصوص غاية في الروعة والإتقان.. التقيته في حلب وفي ليبيا عدة مرات.. ودوما ما تثير نصوصه إعجاب من يستمع إليه.. إضافة إلى أنه يحفظ الكثير من الشعر العربي حديثه وقديمه .. يتغنى ويزهو بترديده كلما سنحت له الفرصة لافتا أنظار الفتيات قبل الفتيان.
بعد عودتنا من جولتنا الصباحية.. التقينا الدكتور شريف عابدين القادم من الإسكندرية ..هي المرة الأول التي التقيه.. طبيب جراح.. أهتدى إلى القصة القصيرة جدا.. ذو روح مرحة.. وصاحب قلب كبير.. متأنق في كلماته وتصرفاته..ولذلك كثيرا ما أثارت تصرفاتي وكلماتي حفيظته.. وكثيرا ما أعتذرت لروحة الجميلة من طبائع الصعاليك التي تسكنني .
مع نهاية يومنا أتت فوزية القادري.. من سكان الناظور يعرفها الجميع.. تكتب الرواية والقصة.. والشعر.. تتعامل مع الجميع بعاطفة وحنو.. نظراتها ثاقبة وعملية.. كلماتها لاذعة وصادقة.. تحمل سجايا جميلة .. بل هي روح قديسة.. حملتنا في جولة على عربتها- الفاخري..شريف.. غادة-طافت أطراف المدينة.. الكورنيش.. وأحياء حديثة.. ثم شربنا القهوة في بيتها: فلة من دورين .. الدور الثاني صالة واسعة مفتوحة على بعضها دون عازل.. مؤثثة تأثيث مغربي أنيق.
عدنا بعد أن غادرت الشمس أفقها وقد حل ظلام بارد لنجد صالة طعام الفندق وقد غصت بالمدعوين: حسن البطران (سعودي) ذلك المتألق دوما من يأسرك بحديثه وجميل رفقته.. منيرة الإزيمع(سعودية) التي تعتز بنصوصها لتسأل كل من تصادفه من الأدباء ألم يستفزك نص من نصوصي حتى تكتب عنه .. ومن فلسطين يوسف حطيني ناقد وقاص .. وهو القادم من الخليج حيث يقيم..من تونس فاطمة بن محمود جريئة في طرحها ونقدها.. ودوما ما يلفتك صوتها وتمرد نصها الإبداعي.
دفئ الأحبة:
ولم يأت المساء إلا وقد أزدحم الفندق بأدباء ونقاد مغاربة للقصة القصيرة جدا: الصديق حميد ركاطة الذي التقيه لأول مرة.. أديب ذو حضور بهي .. بحضوره يضفى على الجو حيوية وألفه.. ركاطة .. ما أن يصعد ليدير فعالية حتى يأسر الجمهور بأسلوبه المسرحي في الإدارة.. الكل يراه الدينمو المحرك للمشهد الأدبي والنقدي له عدة إصدارات نقدية وقصصية. الصديق المبدع مصطفى لغتيري صدمني عند رؤيته فهي المرة الأولى.. كنت أعتقده طاعنا في السن وأنا أتابع التواصل به عبر الفيس.. لغيتري يفيض محبة دون إذن .. صريح دون مواربة.. يقدم روحه قبل كلماته.. خصب المشاعر والنتاج الأدبي.. عرفته أكثر حين خرجنا نحو البحر ..حدثني بجمال روح المبدع عن تجربته وطقوسه في الكتابة.. ثم حين التقينا بالدار البيضاء..سار بي معرفا على سيارته من معرض الكتاب بالدار البيضاء ليطوف بي المدينة يقدمها إلي كفاتنة.. شكرا مصطفى أيها المتفضل. الكبير عبد الله المتقي لا أدري لماذا أشعر بأنه يحمل عقلا وقلبا أكبر من سنه.. وأنه كائن يؤثث لنفسه مكانا في قلوب من يلتقيهم ..المتقي علامة فارقة .. يأسر الإنسان بتواضعه وجميل حديثه. على تواصل بي هاتفيا طيلة وجودي بالمغرب ..حاول أن ينظم لي جلسة أدبية في مدينة الفقيه ابن صالح لكنني كنت في تنقل دائم بين مدن المغرب ما أربكت مواعيده وكان دوما قريبا مني أينما انتقلت. نعيمة زايد دبلوماسية الشعر .. قريبة جدا وبعيدة جدا.. لها في الشعر سمو.. ما أن تحضر حتى تشعرك بأن لا شريك لها في الوجود ملكة.. ومتى غابت تغيب ....... عبد الجبار خمران.. رغم الفارق العمري بيننا إلا أني شعرت بقربه كما لو كنا أصدقاء.. مبدعا في كلماته في تصرفاته في شكله.. يأسر من يقابله في تعامله ..خديجة وصيفة الملكة .. نادية الأزمي.. طنجاوية أصيلة.. كالفراشة تسير بصمت..تتصرف بقدر... حريصة على أن تكون قريبة من الجميع كالشمس.. ومحمد رمصيص ذلك الناقد الرصين.. دوما يلفت من يسمعه بروعة حديثة خاصة فيما يتعلق بالنقد وتنظيرة.. لا يجرح في أرائه .. فاطمة الزهراء المرابط. محمد أكراد الجميل دوما والرائع.. مبدع أخلاقا وخلقا.. حسن برطال نجم لايشبهه أخر في القصة القصيرة جدا.. جمال الدين الخضيري.. جميل حمداوي عز الدين الماعزي...ميمون.. وغيرهم كثر أتوا من مدن المغرب البعيدة والقريبة.. مدن سمعنا بها ومدن عرفناها منهم: الصويرة.. الجديدة.. زاكورة.. خنيفرة.. القنيطرة..ضجت صالة الطعام بأحاديثهم..ضحكاتهم . إنها الناظور عاصمة القصة قصيرة جدا.
صعاليك:
سار يوم الافتتاح بشكل رائع..وأديرت الندوات وجلسات الإلقاء ولحظات التكريم.
لم يكن مهرجاننا هو مايدور في تلك القاعات.. بل كان لنا مهرجانا آخر.. حيث نخرج ليلا نطوف الشوارع والساحات..نزور الحدائق وكورنيش المتوسط.. فما أن نكمل طعام العشاء حتى نخرج من جماعات.. نجوب شوارعها.. قائدتنا الشاعرة نعيمة زايد من مكناس " صغير في أرض مكناس يغني أيش علي من الناس وأيش على الناس مني.." .. تضحك احداهن فتومض ضحكتها برقا لترعد السماء وتنسكب مطرا على رؤوسنا.. نفر باحثين عما يؤونا.. تتمرد فاطمة بن محمود على الجموع لتوغل في ظلمة الشوارع وتتلو إبداعها شعرا ونثرا.. يسبقنا شموخ صوت جمعة نظما جميلا.. تزداد دوار عيني غادة طفولة ..وخمران يغرد بصوته المسرحي وضحكته الكبيرة فتضيء ليل الناظور من نوافذ برج الرياض صلاتا وترانيم..لغتيري ذلك الكائن الجميل بأحاديثه عن الأدب ..عن روايات قرأها .. يسرع صوته جذلا فيحيل الأمكنة إلى هالات مضيئة.
يفرغ لنا السكان شوارعهم.. وساحاتهم ..وساحلهم.. أو هكذا خيل لنا.. فلا أحد غيرنا في تلك الساعات ..غير رجال الأمن .. ونساء جلسن على قارعة الليل وبعض العجزة ملتفين بكراتين البرد القارص.. وقلة من كلابٍ ضالة.. ثلاث ليال نعود فيها إلى الفندق قبيل الفجر بعد جولة في شرايين مدينة مبهجة بصمتها فاتنة بصحبتها.. تسكنها أصواتنا.
أنقضى المهرجان ورحل من رحل.. وظلت شوارع المدينة تنتظر وقع أصواتنا ورنين أقدامنا.. جدران تلك القاعات فاغرة أفواهها باردة.. ومنصات الحكي المقاعد تحاكي الصمت.
أنه الرحيل على قطار الساعة الثامنة مساء.. حسن البطران منيرة الازيمع.. المرابط فاطمة الزهراء المتجهة إلى مدينتها أصيلة.. نغادر الناظور باتجاه (كازا) لتسمعنا الزهراء نصوصها القصصية ..ويالروعة تلك النصوص .. كان اقتراحا موفقا ذلك أن نسمع بعضا من نصوصنا حتى نأنسن الطريق..في البدء قدمت فاطمة نفسها بأنها إعلامية.. لها محاولات في القصة القصيرة.. قرأت أول نص.. ثاني نص ثالث ورابع.. لتتضاءل أستاذيتي التي كنت قد استعددت بها لمقارعة كل نص تقرأة..قدمت نصوصا أقوى من تواضعها .. لم يقرأ أي منا نصا .. نستمع إلى تلك النصوص الهادفة في مضمونها الرائعة في بنائها.
ودعتنا فاطمة في إحدى المحطات لتركب قطارا أخر متجها مدينتها الشمالية أصيلة.. ونستمر ثلاثتنا باتجاه (البيضاء)
دخلنا المدينة مع شروق شمسها.. ليحلق حسن ومنيرة إلى منطقتهم الشرقية بالسعودية صباح اليوم التالي.
معتقل ببغداد:
أجد نفسي وحيدا في مدينة لا تهدأ. جلست مساء أخطط لباقي أيامي في المغرب.. أريد أن أزور مدنها ..أن أتعرف على أقاصي المغرب وناسها.. تبقى على معرض الكتاب بالدار البيضاء سبعة أيام وعلي باستغلالها .. لكنها مفاجئة جديدة تصلني على شكل دعوة عبر إيميلي من العراق.. أن أحضر احتفالات بغداد عاصمة للثقافة.. تلك الدعوة أربكت خططي.. ترددت في البدء.. ألبي أم لا .. ولم تأت الظهيرة إلا وقد حزمت حقيبتي متوجهانحو المطار تاركا بعض ملابسي وكتبي في أمانة الفندق الذي أنزل به حتى أعود.
كانت رحلة ممتعة على الإماراتية من الدار البيضاء إلى دبي خمس ساعات.. ثم علي أن أنتظر أحدى عشر ساعة في المطار حتى تأتي رحلة بغداد .. وبذلك قضيت أتسكع في جوانب مطار متعدد المباني والأدوار.. هو عالم يختلف كثيرا عن عوالم المطارات العربية التي عبرتها .. لتنقضي تلك الساعات .. ثم أحلق باتجاه العراق ..وهكذا انقضت أربع وعشرين ساعة قضيتها بمتعة.
وصلت بغداد. وتلك حكاية ثانية.. لامجال لسردها هنا.. فثلاثة أيام في بغداد جديرة بمقال آخر.
الأهم كنت حريصا على العودة للمشاركة في معرض الكتاب بالبيضاء لأشارك حسب الدعوة من وزارة الثقافة المغربية بإحدى الندوات.. خاصة وأني قد أعددت ورقة حول المدينة في الرواية اليمنية.. درست فيها ثلاث روايات هي : (المكلا.. لباعامر.. صنعاء مينة مفتوحة.. لمحمد عبد الولي.. والرهينة.. لدماج..) وبخروجي من المغرب لم أكن أعرف أن التأشيرة ستلغى .. وحين عرفت حدثت نفس أن أحصل على تأشيرة العودة من بغداد ..حيث قد اعتقدت بوجود سفارة مغربية .. لكن بعض الظن خيبة..فلا توجد سفارة.. أمسيت ونفسي في موقف غريب.. عرفت أن للمغرب سفارة في عمان لم يتبق لمعرض الدار الببضاء إلا ثلاثة أيام.. حلقت على العراقية لأصل عمان في الحادية عشر ظهرا.. وتوا توجهت إلى السفارة المغربية بالشميساني.. لكن القنصل رفض حتى مقابلتي موجها الكلام عبر موظف يقبع في كشك في الباب..وقال بأن علي الذهاب إلى صنعاء للحصول على التأشيرة.. الوقت يمر ومشاركتي لم يتبق عليها غير يومين.. حاولت مقابلته لكنه رفض أن يتعامل معي إلا عبر موظف الكشك الأمني.. كنت أود أن أوضح له لعل وعسى.. لكنه قطع الشك باليقين رافضا مبدأ اللقاء أو الحوار.. وجدت على المصرية طائرة إلى صنعاء في نفس اليوم.. وفي صنعاء ذهبت القسم القنصلي.. لأجد القنصل خارجا.. اليوم الثالث وكان آخر أمل.. يوم خميس بعده الجمعة عطلة.. قابلت القنصل ودودا مقدرا الظرف بعد أن شرحت له حكايتي وقدمت له صورة من الدعوة.. تفهم ما أعانيه من ضيق في الوقت ..وفورا منحني التأشيرة متمنيا لي رحلة موفقة لأغادر صنعاء مساء الجمعة محلقا على القطرية عبر الدوحة ثم تونس والدار البيضاء.. مقاعد صغيرة ومتعبة تصلح للأطفال على الخطوط القطرية عكس ما كنت قد سمعت بأنها الأولى عالميا.. التقيت بالروائي السوداني أمير تاج السر على نفس الرحلة.. عرفت أنه مدعو للمشاركة في فعاليات معرض الكتاب بالبيضاء.
شحرور:
اكتشفت حين وصلت مطار الدار البيضاء بأنهم يمنحون تأشيرة الدخول من المطار لمن لديه دعوة رسمية. وأن البحث في بغداد عن سفارة لتجديد دخولي المغرب..والعبور إلى عمان لنفس الغرض ثم العودة إلى صنعاء كان أمرا غير مبرر.. روح تسخر بي.. ورب ضارة نافعة.. وعسى أن تكرهوا...... الخ تلك المقولات السائبة التي لا أؤمن بها..
أنزلونا في فندق بعين الذئاب.. فندق على منحدر..موقع ساحر تلامس أطرافه موج الأطلسي.. هناك التقينا بلفيف من مدعوي معرض الكتاب : الروائي الجزائري واسيني الاعرج .. القاص و الروائي العراقي التونسي عبدالرحمن الربيعي.. والشاعر السوري نوري ألجراح.. والشاعر سعدي يوسف.. الذي بدا غريبا وقد علق على أذانه خروص.. وحول عنقه سلاسل الذهب الأبيض.. شاعر عظيم ذكرني بالشحرورة وتشبثها بالحياة.. لكنه بدا متصابيا رائعا.
ضيوف آخرين من السعودية و مصر.إضافة إلى أمير تاج السر الذي حضرنا له فعاليته – تجربته في الكتابة- رغم أنه لم يحضر لنا فعاليتنا.. كان جمهور فعاليتنا نوعي ..نسوي خالص .. عدا الصديق شعيب حليفي الذي انصرف قبل ان ننتهي رغم أني كنت في شوق للقياه.
شاركت و الدكتورعبد الرحمن الربيعي.. والدكتور محمد عز الدين التازي .
معرض الكتاب لهذه السنة انحصر بداخل المبنى الخراصاني المقوس .. دون أن يتمدد على شكل هناجر وخيام على الساحة الأمامية التي تركت كمواقف للسيارات.. المعرض مرتب ومزدحم .. وجدنا فيه كبريات دور النشر العربية.. وكان ضيف الشرف ليبيا قد تميزت بأنشطة جناحيها المتنوعة واليومية.. إضافة إلى تميز وحضور بعض الأجنحة مثل الجزائري والفرنسي ومعهد جوته الألماني .. وكذلك جناح أنيق باللغة الأمازيغية .
رغم تميز المعرض بما ذكرت إلا أن أجمل ما فيه كان لقاء من تود لقياهم من أدباء ومثقفين .. نقاد ومبدعين مغاربة وعرب.. كذلك تلك الفعاليات المصاحبة كحفل تسليم جائزة الأركانا.. وحفلات توقيع الإصدارات الجديدة خاصة فيما يتعلق بالسرد ونقده.. والأجمل أن اقتناء الجديد من الروايات .اضافة إلى تلك اللقاءات الهامشية حول طاولات القهوة.. الخروج للتعرف على المدينة مع أصدقاء من سكانها.
رغم تلك الأجواء الجميلة والممتعة.. إلا أن بعض من كنت أود لقياهم لم تتقاطع مساراتنا .. لكنها أرواحنا تلتقي على أغلفة وصفحات كتبهم.وما الكائن المبدع إلا ما ينتجه من كلمة ولون ونغم.
التقيت بمسؤولي بعض دور النشر.. بالصديقي محمد الجعيدي دار الريس.. وبالعزيزة فاطمة البودي صاحبة دار العين.. وبالأستاذ بسام الكردي صاحب دار المركز الثقافي العربي .. وفي جناح الآداب برانيا ادريس.. وآخرين.. حيث عرضت عليهم إمكانية طباعة بعض أعمالي.
أركانة:
اجتزأت من أيام المعرض ورحلت جنوبا نحو مدينة أغادير أرض شجرة الأركانة وهي المدينة الجنوبية التي تحادد الصحراء المغربية.. تلك الشجرة التي حولت أودية وسهول أغادير إلى مستوطنة لها تعانق الزيتون واللوز وتجاور النخيل.. تحيل سفوح الجبال العالية إلى منحدرات خضراء تزدحم فوقها الأركانة التي تدر زيتا فيه غذاء وشفاء للإنسان.. حين عبرت بنا الحافلة شاهدت تلك الجبال المكللة ببياض الثلوج(الأطلس) وهي سلسلة تمتد من شمال المغرب إلى أوسطه لتتجه شرقا في الأراضي الجزائرية.
أغادير مدينة ساحلية حديثة التكون وأجمل معالمها كورنيشها الطويل والمرتب وفلل أثرياء الخواجات الذين أتوا من ديارهم ليسكنوا وداعتها ورخص المعيشة بالمغرب مقارنة بما هي في بلدانهم ولينعموا بالأمان .. وبسوقها (سوق الأحد) .. الذي يضم تحته كل ما يتصوره العقل.. من زيوت وعطارة ومشغولات فضية.. وعسل ولبن.. وخضر وفاكهة ولحوم..وزهور.. وأعشاب.. ومنسوجات ومشغولات جلدية وفضية . وتتميز أغادير بشجرة الأركانة تلك الشجرة التي لا تنمو إلا في تلك الأودية والجبال والسهول.. كما تتميز بوادي الطيور الذي يحتل وسط المدينة تلك الحديقة التي تقع على اتساع تلة تربط بين أحياء المدينة وتعبرها عدة جسور للسيارات من سماء الحديقة.. ليسير العابرون تحت سقف من شبك الأسلاك الرقيقة التي تطير فوقه الطيور.. ويعلوها شبك أخر يغطي الأشجار والممرات والشلالات.. لتحلق الطيور المختلفة بين فضاء الشبكين تتنقل في أنحاء الحديقة وعلى فروع الأشجار لتضيف على المكان الفه وجمال.. وهذا المعلم يزوره ملايين الزوار ليشاهدون أغرب حديقة للطيور المتنوعة والغريبة .. وكذا تمتاز أغاديربقلعتها التي تطل على المدينة من عليائها ..وهي القلعة التي كانت قوام مدينة أكادير القديمة حتى ستينات القرن الماضي حين انتهت بزلزال هدم الكثير من المدن المغربية ومن بينها أغادير.. ومن جديد تحلق العنقاء من بين الرماد وتنهض أسفل الجبل في سهل يمتد بين الجبال وعلى ضفاف الأطلسي.. مدينة حديثة ومرتبة بحدائقها الغناء.. وساحاتها. بل هي مدينة (أركانا) وان كان ذلك الأسم يطلق على مدينة صغيرة أخرى في الطريق إلى مراكش.. وأركانا هي شجرة تغطي سهولا واسعة حول مدينة أغادير.. وسفوحا ووديانا بين جبال أطلس الكبير.
بعد مدينة الأركانة أغادير زرت مراكش.. ومن الصعب إستيعاب تفاصيل وعوالم هذه الميدينة الغانية ..هناك التقيت بالأصدقاء دكتور محمد الكميم ودكتور بشير زندال اللذين حضرا من الرباط ليشاركا في فعالية رتبت بمدينة قلعة السراغنة بضواحي مراكش لتكريمي وتكريم أديبتين مغربيتين.. بهجة أن تكون برفقة أصدقاء في جمال وصفاء زندال والكميم.
مراكش مدينة تجمعت بها النقائض.. بها أجمل الحدائق.. وأفخم الأحياء التي يسكنها كبار أثرياء أوربا ونجومها.. وبها أكبر الفنادق.. مدينة عصرية .. تجاورها مدينة تاريخية عريقة..جمعت بين المعاصر والتاريخي في كيان واحد.. ساحة الفناء معلم مغربي وعالمي.. ما أن يقترب الليل حتى تزدحم الساحة بالحواة وباعة الأطعمة والعشابين وأصحب السحر.. والمغنواتية.. لتتزاحم الدوائر وتمتلئ الساحة بالبشر.. مهرجان ليلي يسهر الناس حتى الصباح.. مهرجان يومي متجدد.
سوقها القديم.. سوق يحتوي على نفائس المشغولات التراثية والفنية.. حاولت مرارا التعرف على تشعباته وكل أجزاؤه فتهت ست ساعات لأكتشف بأني أذهب من نقطة لأعود إليها.. لكنها توهة ممتعة إذ رأيت مالا يمكن تخيلة من تحف منحوته ومشغولات فضية رائعة.. ومنسوجات وغير ذلك مما ينتجه الحرفي والفنان المغربي.
جامع الفناء والذي يجاور حديقة غناء وواسعة.. في مراكش عدة قصور أثرية فتحت للزوار منها قصر الباهية..وهو قصر مرصع بالفنون الجميلة من سقوفه إلى جدرانه وكل شبر فيه.
ومشغولات مراكش تعتبر من الموارد الأساسية لجذب السواح .. والذي يزيد عددهم عن عشرة مليون شخص سنويا غير المقيمين.
ومن مراكش لبينا دعوة وجهها لنا أدباء مدينة قلعة السراقنة..التي يتجاوز سكانها المئة والعشرين نسمة.. رتب لحفلا ضاجا بالحضور والمشاركات.. تألق الكميم بحديثه حول أعمالي السردية.. وتوهجت الإحتفائية بأديبتين مغربيتن الشاعرة ليلى ناسمي من الدار البيضاء.. زجالة ومناضلة يسارية.. وليلى مهيدرة من الصويرة .. قاصة وشاعرة.. تخللت الإحتفائة وصلات غنائية وقراءات شعرية وقصصية.. كما القيت الكلمات القصيرة .. والاسكتشات المسرحية . وقراءات نقدية لأعمال الناسمي ومهيدرة.. تحدث كل منا نحن المكرمين حول تجربته ومع إنتهاء الحفل وزعت الشهادات والدروع التذكارية.
ولم ينتهي الحفل حيث أنتقلنا إلى بيت رئيس منظمة السلام للسينما والابداع ومركز الاندلس للادب .. الأستاذ عبدالله الساورة الذي كان كريما وودودا .. وهناك تناول الجميع وجبة العشاء.. وقدم لنا الأستاذ عبدالله وأخيه ضيافة كريمة ثم واصل الجميع إحتفالهم بالمقطوعات الغنائية والقصائد الشعرية حتى الثانية من صباح اليوم التالي. شكرا عبدالله الساورة .. شكرا لتلك المحبة للجميع ومن الجميع. وشكرا للأستاذة عزيزة التي نسقت معي وكنت أتمنى لقياها.
ودعنا ثلاثتنا السراغنة صباحا إلى الدار البيضاء.. ودعنا مدينة تحتفي بها الطبيعة الخضراء.. وتزينها ساحاتها وحدائقها .. كان قطار الثامنة صباحا.. لم نجد مقاعدا فمكثنا طوال الرحلة وقوف .. فللمغاربة الدارسين عطلة ربيعية قد تصل إلى أربعة عشر يوما.. وفيها يسافر الناس باطفالهم واسرهم عبر المدن لقضاء أيام الإجازة .. ولذلك ترى وسائل المواصلات مزدحمة .. وغرف الفنادق عامرة. كانت رحلة ممتعة إذ يعبر القطار وسط سهول خضراء.. تتلون تلك السهول فتحسبها لوحة سندس تتوهج بألوان أزهارها..
لنحضر أخر يوم من أيام معرض البيضاء للكتاب.. نودع ذلك المحفل .. وما أقسى الوداع.. ليس وداع الجدران بل وداع أروا ح سكنت تلك القاعات وتلك الفضاءات التي تعطرت بعطر كلماتهم.. تفرقت الجموع ليمضي كل إلى مدن وبلدان غايتها الكلمة ينبوع الإنسان.. الفن أجنحة العقل والعاطفة.
الخبز الحافي
لم تعد البيضاء إلا مدينة طاردة بعد إنتها المعرض وسفر الصديقين بشير والكميم والأصدقاء المغاربة كل إلى مدينته.. لم يعد يهمني عمائرها وساحاتها الواسعة أو مقاهيها وأسواقها .. أسير في الشوارع لا أعرف ما تريده نفسي..أبحث عن شيء لا أجده.. لم يكن لي إلا أن أرحل أقصى شمال المغرب .. حملت حقائبي لألتقي بشير في محطة الرباط.. أستودعته بعضها ومضيت على نفس القطار شمالا ألبي نداء طنجة.. تلك المدينة التي عرفتها في الخبز الحافي.. مدن المغرب لاتشبه بعضها..دوما تفاجئني بتميز كل منها .. متى ما دخلت مدينة أراها تستعرض مفاتنها.. توشوشني سائلة :من الأجمل؟ أقف محتارا.. فهل سأجد طنجة كما رسمها شكري في أعماله الرواية؟ هذا السؤال وغيره كان يستفز خيالي .. هذا أنا في طنجة.. أبحث عن تميزها بعيدا عن الخبز الحافي.. بعيدا عن شكري.. لكنها روحه ترافقني.. أرى ملامح من أصادف في الطرقات والأزقة محمد شكري..أسمع صدى كلمات شخصيات الخبز الحافي والسوق الداخلي .. السكارى ..العاهرات.. أصوات مؤذني المساجد.. رائحة البحر وصفارات المراكب والبواخر.. ضجيج ملاحقة في الأزقة الداخلية.. لم يترك لي شكري خيارا .
طنجة مدينة أخذت من مدن المتوسط الكثير.. فها هي ملامح اللاذقية والإسكندرية وبيروت وتونس وطرابلس تتجلى فيها.. وهكذا الجزائر وأنطاكيا بتركيا في ملامحها.. وأرى طنجة بجمال موقعها وفرادته مدينة عالمية بقصبتها..ومدينتها القديمة.. وبذلك الموقع الفريد حيث ترى جبال أوربا.. وحيث يتصل الأبيض المتوسط والأطلسي في اضيق مكان.. ترى جبل طارق.. وأنوار المدن الأسبانية.. ويرى الحنين إلى الفردوس الأندلس.. القصبة مدينة على قمة جبل ينحدر باتجاه مضيق جبل طارق.. لها عدة أبراج دفاعية منها سانت كاترين وبرج القلعة جثمت فوقها مدافع كبيرة وقديمة..كلها موجهة باتجاه البحر نحو الشاطئ الأخر لإسبانيا .. والقصبة لها سور لايزال عامرا تخترقه عدة أبواب منها: البحر والنعام ومريكان والقصبة وباب رحبة الزرع والدباغ وباب المرسى. وتزحم القصبة بالمباني القديمة ومعظمها مساكن ومباني الحاكم وممثلي الدول.. كما توجد بينها عدة أضرحة منها ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني.. وبها عدة مساجد.. ومقاه. ولطنجة المدينة القديمة شبكة من الأسواق والأحياء التي تتصل بها زنقات وساحات.
مقبرة الكلاب:
واذا كانت المدن تلحق بها مقابر البشر وتزهو بالأضرحة.. مثل مقابر السكان من يهود ومسيحيين ومسلمين.. فإن طنجة تزهو بكل ذلك بل وبأغرب مقبرة..وهي مقبرة الكلاب التي ورثتها المدينة من عقود سابقة. والغرابة تأتي على الأقل من وعيننا كشرقيين ..فالكلاب كائنات جميلة..و كثيرا ما لاحظتها ترافق أصحابها في شوارع المدن المغربية .فذلك الحيوان الأليف يلقى ترحاب ورعاية من بعض السكان.. وكذا القطط.
عبر أزقة قادني الصبي حمزة كل شيء هنا نظيف ومتشعب.. ألهث سائلا نفسي :-لم يكون ضريح ابن بطوطة في أزقة ضيقة؟- ألا يستحق مكانا فسيحا تحيط به الحدائق والساحات؟!" لكن حمزة ظل يهرول هابطا وصاعدا بي لكأنه لن يتوقف.. ألهث حتى لايغيب عني..أخيرا توقف فتوقفت لأرى بين منازل متزاحمة مبنى صغير أبيض .ينظر إلي حمزة بعيون وجلة وكأنه يخشى أن أفقد ثقتي بما أرى وبالتالي لا يحصل على مكافأته" قرب هيا الباب من هنا!" وقف حمزة مشيرا علي بإصبعه.. باب صغير لغرفة صغيرة رقد في أحد جوانبها قبر مغطى بسجادة خضراء عليها أيات بينات.. رجل طاعن في السن يتقبل القبلة مصليا عرفت أن اسمه مهدي.. جدران غطت بأيات من القرآن .. أكمل الشيخ مهدي صلاته ونهض محتفيا بنا شارحا لنا بعض تاريخ ابن بطوطة وأن أناسا يزورونه من الصين والهند والأوربيين.. سألته : وسكان طنجة؟ فقال: تأتي النساء وبعض الرجال للصلاة والتبرك!! .
ودعت حمزة والشيخ مهدي ومولانا ابن بطوطة.. طفت أزقة قصبة طنجة.. المدينة القديمة.. الأسواق.. غصت بين زحام الناس .. حدثت نفسي"نعم..نعم أنها مدينة الخبز الحافي" أتأمل وجوه الناس فلا أرى وجه شكري.. سألت البعض عنه ..الجميع يتأمل عينيَّ باستغراب ويمضي.. كررت السؤال لأفاجأ بان لا أحد يعرف محمد شكري .. لم أصدق ما أنا فيه ..لكنها مدينته طنجة وأنا لم أخطئ المدينة.. يومان من البحث ولم أجد شكري.. وفي نهاية اليوم الثالث أجابني صاحب مكتبة بأن علي الذهاب إلى شارع سينما ركسي.. هناك حيث قنصلية الفرانسيس.. في شارع البريد.. قال لي هناك يسكن شكري.. وصلت إلى المكان أسأل العابرة.. أصحاب المتاجر دون فائدة.. لكن نادل أحد المقاهي أبتسم في وجهي وقال: "كان يأتي شكري وخلفه كلبه.. متسخا مشوش الملامح .. يجلس هناك .. يرتشف قهوته وهو يتأمل ما حوله بتأفف.. كان يأتي مترنحا من ذلك الشارع" ثم تلطف ذلك النادل ليدلني على سكن شكري.. دخلنا من باب العمارة صعدنا درجا نظيفا.. الدور الأول..الثاني..الثالث.. الرابع... حتى صعدنا سطح العمارة ليشير على باب في طرف سطح العمارة"هنا كان يسكن شكري وكلبه.. يتردد عليه صديقه السوسي..وآخر فرنسي.. وبداخل تلك الغرفة مات مهملا تحاصره النفايات"
غادرت تلك الشوارع حزينا لا أعرف لماذا .. سكنت بغرفتي وتساؤلات عديدة تتزاحم برأسي.
سألت صاحب النزل الذي أسكنه عن أهم معالم المدينة حتى لاتفوتني زيارتها.. فلم يزد عما عرفت من القصبة والأحياء القديمة ليضيف مغارة هرقل.. وفي التو خرج بي سائق عربة أجرة إلى الضواحي .. هناك حيث جرف صخري يتجمع الناس للتنزه .. تزاحمت المقاهي والمطاعم.. أسعار مناسبة ..موقع ساحر وجميل ..منحدر أقرب إلى الجرف نحتت على جوانبه مقاهي وإستراحات .. أسفل المنحدر يقف صيادو الأسماك بسنانيرهم الطويلة باتجاه الماء.. خشوع كأنهم يصلون.. صبايا أو قل حوريات البحر يتنقلن بين أسرهن أو مع أصدقائهن .. روائح شواء السمك. أكملت فنجان قهوتي صعدت إلى فوهة هي فوهة المغارة.. باعة التحف حول مدخلها.. سرت مع السائرين في باطنها.. سقفها يتهاطل ماء.. أنبثق في آخرها ضوء وضجيج ..عرفت بأنه موج البحر عند فوهتها الأخرى التي تلامس الماء.. لكن لماذا سميت بمغارة هرقل.. لأن البعض يظن بأن لايحفر مثلها إلا ذو اسم مثل هرقل وعنتر.. وذو القرنين ولما كان الرومان هنا في عصورهم فقد ظن الناس أن كفي هرقل قد ابتدعت ذلك التجويف الأرضي.
شكرا نادية:
غادرت طنجة على قطار سابعة صباحا اليوم التالي عبر تلال وسهول تنز بمياه كثيرة.. كل شيء هنا في الشمال مبلل.. السماء تمطر والبحر يحاصر كل شيء.. والجبال تدفع بمياهها .. وما ألطف أن يأتيك صوت صديق.. يلطف عليك غبن شكري من سكان مدينته الساحرة.. إنه صوت العزيزة نادية ... الذي كنت قد التقيتها في مهرجان الناظور.. وكنت معها مزعجا حين أكرر أن تلتقط بكمرتي بعض الصور.. لكنها من سماحة الخلق وهدوء التعامل ما تترك في النفس معزة وتقدير.. شكرا العزيزة نادية وشكرا لمدينة طنجة.. مدينة بها روح إنسانية .. بها ذلك الصراع والتآلف.. الخليط المكون لها.. شكرا لأنها مدينتك .. مع أماني الخير والسعادة لك ..عبرت مملكة الماء. (أصيلة) تلك المدينة العارية .. فاتنة بيضاء تستحم بمياه البحر وقد أعطت الجبال ظهرها.
ظلمة الله
مدن مبللة تقف على حافتي الطريق بين طنجة ومكناس.. ترتجف لتيارت الصقيع.. سهول تمارس التطرف بخضرتها وكثافة أشجارها.. أرض يشبعها الماء متعة.. اخترقنا عدة مدن غارقة في خضرتها.. وما هي إلا ساعات حتى صعد القطار وادي بأطراف مكناس ..تفرق الركاب في محطتها تبحث عيناي عما قرأته عن مكناس فلا أجد غير مدينة حديثة مثلها مثل أي مدينة عصرية بشوارعها الواسعة وساحاتها وحدائقها.. زحام العربات .. تبدد تعجبي حين أوصلني سائق أجرة إلى مكناس القديمة..مكناس التي في خاطري.. ولا أعلم لماذا أنا أبحث عن كل القديم دوما أسأل نفسي ولا أجد له جوابا.. هالتني تلك البوابات الكبيرة المزخرفة بالنحوت والنقوش.. وذلك السور الذي يحتوي على شطر من المدينة القديمة بأضرحتها وقصورها ومساجدها.
سجون تحت قصر (مولاي يوسف) والتي فتحت دهاليزه أمام الزوار وتحولت إلى مزارات سياحية. مكناس فاجأتني بجمال وكثافة زخارفها الرائعة.. وتلك اللوحات المزينة بنقوش فريدة.. وببحيرتها الصغيرة(السواني) وبحدائق القصر الملكي الذي أستوعب لإتساعه ملاعب للجولف.. وضريح مولاي إسماعيل مؤسس الدولة العلوية عاصمتها مكناس .. وضريح إسماعيل هو ضريح في روضة مزينة بنقوش إسلامية غاية في الإتقان والجمال.. عبرنا إحدى تلك البوابات التي أفضت إلى ساحة واسعة ..عبرنا الساحة لنعبر بوابة أخرى أفضت إلى حجرة دون سقوف مزينة بالزخارف وآيات .. ثم ممرات وصالات عديدة حتى كنا بداخل صرح من الفسيفساء ثم بيت الصلاة الذي يقع بجانبها قبر المؤسس. ذلك هو ضريح مولاي يوسف.. الذي كان له سجن تحت أفخم صالات قصره.. سجن لا يعرف نور الشمس أبدا.. سجن تحت طبقات الأرض. .يستقبل السفراء ويقيم الحفلات في قاعة فخمة فوق ذلك السجن . السجن الممتد تحت الأرض.
هذا السجن قرأته عنه قبل أن أزور المغرب بسنوات.. شدتني المفارقة.. أن يقع تحت قاعة فخمة سجن مظلم .. قاعة استقبال ملونة ومنقش يستقبل فيها الملك السفراء وكبار الشخصيات كما تقام بها الإحتفالات الكبرى.. ليصبح ذلك السجن إحدى تيمات رواياتي (ظلمة الله) أو (ظلمة يائيل)الحائزة على جائزة الروائي الطيب صالح لعام 2012.
زرت تلك القاعة أنا وصديقي بشير زندال الذي جاء من الرباط كي نترافق .. هبطنا درج وأظنه حديث البناء إلى سراديب السجن بعد أن أضحى مزارا.. هبطنا باطن الأرض.. لنجد أنفسنا في سراديب مظلمة تؤثثها أرواح من مضوا.. وتحت أقدامنا فتحات أخرى ضيقة قد تكون لسجن مكمل تحت السجن.. وقد يكون هو السجن الحقيقي.. أرهفنا السمع من تلك الخروم .. لنسمع هدير مياه في الأسفل. كانت مشاعري تضطرم وأنا أسترجع ماضيا عاشته شخصية روايتي ظلمة يائيل أو ظلمة الله.. ذلك الشاب (جوذر) الذي مكث وسط عوالم العفن .. في ظلمة تهترئ فيها الأجسام بتكاثر الطفيليات والبكتيريا .. يعايش أنين وصراخ الأرواح من آلام الأجساد .. يفنى من في الظلمة واحدا تلو الأخر لياتي بالجديد.. تتحلل جثثهم في سراديبها.
بكل تلك الخيالات التي أجدها الآن أمامي بعد أن تخيلتها روائيا. لقد دهشت لرؤيتي ما تخيلته خيالا لأكتب ظلمة يائيل. بل أني كنت أسمع صراخهم وأصواتهم تتردد بداخل ذلك الفراغ البارد والرطب الذي يتخلله عشرات الأعمدة والأقواس الحاملة لسقوف لا نراها.
صعدنا من ظلمة الله ينخرني البرد محملا بالكثير من الأحاسيس والكثير من الخيالات.. لنخرج من أسوار ذلك المكان نحو الجزء الثاني من مدينة مكناس.. تلك الأزقة تقودنا إلى غبة السوق.. أزقة تفضي إليها أبواب زينت ونقشت بإتقان وطليت بألوان زاهية ومفرحة.. لنعاود الدخول في سوقها المزدحم بكل المنتجات الحرفية المغربية.
في اليوم التالي خرجنا إلى ضواحي مكناس لنزور مدينة رومانية (وليلي) التي تبعد عن مكناس أكثر من عشرين كيلو.. سهل أخضر يوازي أفقا في كل اتجاه.. سهول القمح تلك التي دوما ما تجتذب الرومان.. ومزارع العنب والتين والزيتون.. إنها جنة الله الفردوس بعينه.. إنها المغرب.. قبل أن نصل إلى موقع المدينة الرومانية دخلنا مدينة (مولاي ادريس..) ذلك العلوي الذي دعته القبائل الأمازيغية ليحل بينها معلما لهم أصول الدين وليدرس أطفالهم الحرف العربي وقد قدم غليهم في القرن الثاني الهجري..زرنا ضريحه الكبير. وقبل الدخول اعترضتنا عارضة من الخشب قبيل .. لنعرف من شخص يحرس المدخل بأنها من أجل الركوع قبيل الدخول!! كل شيء في الضريح مدهش.. تلك الجدران المغطاة بأيات ذهبية ومخرمات خشبية.. ولوحات خزفية .. وتلك النوافير.. والحدائق..هو الروض.
اتجهنا بعد ذلك نحو (وليلي) المدينة الرومانية التي لازالت معالمها قائمة من: أعمدة وأقواس وممرات مرصوفة.. وقنوات مياه..وأرضيات فسيفسائية مرسومة بألوان القطع الزاهية.. مدينة تذكر الزائر إلى ذلك المدى التي وصلت إليه الإمبراطورية الرومانية.. هو موقع يقع على ربوة أثرية تطل على سهول القمح والكروم.
أنها مكناس أرض العسل والزيتون.. أرض الزراعة وجنان الأولياء.. مدينة الأسوار والبوابات العظيمة.. مدينة التاريخ.
مينة الشاعرة نعيمة زايد.. التي تعذر مقابلتها في مدينتها كما هي عادة الملوك.. فقد كانت خارج مكناس.. هنيئا لك أيها الشاعرة المجيدة بمدينتك الشبية بروحك الرقيقة
مدينة البغال:
بعد يومين في مكناس خرجت برفقة الصديق بشير زندال باتجاه فاس... انتقلنا عبر قطار متأخر .. لم يطل بنا الوقت حين أخذ القطار يشق طريقه عبر سهول غطاها الله بكساء أخضر مخملي تملأها أشجار الفاكهة من كافة الأنواع وحقول الحبوب والخضار.. حتى ضواحي فاس.. المدينة التي تشعرك بروح المغرب الموغلة في التاريخ .. قضيت بها أجمل أيام زيارتنا للمغرب. هي القلب النابض بتراث وتاريخ ووجود .. فاس بخصائص لاتمتكها غيرها من المدن.. شعور غريب لزائرها .. بها مدابغ وصناعة الجلديات.. سوقها المتشعب .. جغرافيتها الفريدة.. فهي تمتد بشكل تفرعات عملاقة على السفوح والروابي والتلال.. لتغوص في الأودية.. مدينة أخطبوطية.. تتخللها مجاري النهيرات . ليرى الزائر بأن الخضرة هي القاعدة والمباني استثناء رغم شساعة مساحتها.. تراها من قمة الجبل بقعة بيضاء وسط فردوس آسر من الخضرة الزاهية.. بها عين الشفاء.. عين (سيدي حرازم) التي تتدفق مياهها شفاء وسعادة لزائريها .. أعداد كبيرة من سكان فاس والمدن المغربية الأخرى يقصدونها للتزود بمياهها المفيدة لعلاج الكلى .. كما اتخذها الكثير من الأسر متنزها ..يأتون إليها ليقضون أوقاتهم تحت ظلال أشجار الوادي الوارفة أماكنها.
زرنا عين (مولاي يعقوب) الكبريتية الواقعة في ضواحي فاس.. حيث يتجمع الناس من مدن ومناطق شتى للاستشفاء بمياهها المعدنية الحارة.
سحنا في المدينة العتيقة بأزقتها المتماهية الضيقة.. وصلينا في مساجدها العتيقة.. طفنا أضرحتها المتعددة ابتداء من (سيدي التيجاني) إلى آخر ضريح ومدرسة قديمة.. وفي كل مبنى تبهرنا زخارف جدرانها الفسيفسائية وزخارفها الجصية.. وكذلك خشب سقوفها المزخرفة .. زرنا معابد الطائفة اليهودية وكنائس مسيحييها .. سرنا في تشعبات أسواقها ..إنها فاتنة التاريخ المغربي وجوهر صناعاته التقليدية..التي تتنوع من الخزف إلى الذهب والفضة.. ومن النسيج إلى النحاس.. والمصنوعات الجلدية.. ومن المنحوتات الخشبية إلى الألات الموسيقة.. فاس خزانة تراث المغرب وإنسانة الخلاق. فاس المدينة الحديثة بشوارعها وحدائقها ..وأجملها جادة محمد الخامس.
جلسنا تحت ظلال جنائنها المزهرة.. وحول نوافيرها البديعة.. تعرفنا إلى ملامح الشخصية المغربية المتسامحة..المدينة التي تتكئ على إرث من التاريخ الثري بالإحداث .
فاس التي تتمدد بين المدينة العتيقة جدا.. والأحياء القديمة.. إلى المدينة العصرية.. مكونة أرخبيل يمتد على منحدرات غناء تتدفق منها المياة وتنساب جداول متجهة نحو وادي خصيب يسير حتى الذي يحاذي مدينة خنيفرة.ومن أجمل اللقاءات أن التقينا بأدباء فاس بعد أن التحق بنا الأستاذ محمد عبد الوكيل جازم الباحث والدارس في مدينة فاس.. وكنا في ضيافة دكتور عبدالمالك أشهبون ودكتور بشير بأجمل مقاهي فاس.. مقهى الناعورة.. تحلقنا حول فناجين الشاي الأخضر المعطر بالنعناع لتدور أحاديث حول الرواية .. والمدارس النقدية المعاصرة.. وكذا ضرورة تجسير العلاقات بين أدباء المشرق والمغرب. فشكرا للدكتور أشهبون.. الناقد المغربي المعروف.. وللدكتور بشير.. فقد سبق أن تعارفنا منذ سنوات عبر المراسلات. وحين أردت زيارة المغرب كانت لنا لقاءات في معرض الكتاب بالبيضاء.
مفارقة أن ترى ملكا يقود سيارته مارا وسط عربات المواطنين .. دون حراسة إلا من عربة تتبع سيارته تقل أربعة أفراد..وحين كانت إشارة المرور توقف يقف رادا التحية على من حوله .. ثم تهادت عربته بين عربات المواطنين كأي مغربي يتجول ويتفقد المدينة. ذلك هو محمد السادس..الذي ابتهج الناس ليوروه بينهم دون سابق إنذار.
وعادة ما نفضل التسكع عبر المدينة التي يتزاحم في أزقتها البشر من كل جنس بل والدواب وخاصة البغال التي تقوم بدور مهم في نقل السلع..
أزقة من الضيق بحيث أن بعضها لا يستطيع أن يمر منه أكثر من شخص سمين.. ولذلك تروج تجارة البغال التي تستخدم للتنقل أو لحمل الأثقال ونقل السلع في تلك الأزقة..وقد اشتهر سوق خاص بتجارة البغال في فاس وهو الأكبر بين مدن المغرب.. بل ويعتبر من أسوق البغال في العالم لهذا الحيوان الذي أخذ يختفي من دول كثيرة.. وأضحى مشاهدته نادرة إلا في مدينة فاس التي تحتضنه بدرجة أساسية وبعض المدن المغربية.
سقف المغرب:
(إفران)مدينة تسحرك بموقعها.. حيث وكر الثلوج وجبالها ضمن العمود الفقري لسلسة الأطلس.. هناك السحب تمنحه جلالها لتلك القمم الممتدة جنوبا.. لتقسم المغرب إلى عدة أقاليم تتنوع تضاريسها ومناخها طوال السنة كما يتنوع غطاؤها النباتي.. لكنه الزيتون الذي تشترك فيه جميع أقاليم المغرب عدا الصحراء حيث مملكة النخلة التي تعلن وجودها حتى في الأودية العالية بين جبال الأطلس وهضابه.
انطلقنا من فاس صباحا على حافلة العاشرة .. حافلة تزدحم بالفتيات والنساء والأطفال كما هم الرجال دوما قلة.. هكذا المجتمع المغربي دوما ما تجده على وسائل السفر خليط من الأعمار وكأنهم خلقوا كي يتنقلون بين مدنهم بأطفالهم ..أينما توجهت على القطار أو الطاكسي والحافلة.. تجد الأسر في كل الأوقات تحيل الجو إلى جو أسري يشعرك بالألفة والأمان.
بدأت الطريق تصعد في أرض تلالية اكتست بأشجار الصنوبر والكافور .. كما امتلأت السهول بحقول القمح وأشجار الزيتون والمشمش الذي أخذ بعضه بالإزهار. الطقس بدأ بالبرودة.. اجتزنا عدة قرى هبط من هبط وصعد آخرون.. عدة ينابيع وجداول تسير في أخاديد لتشكل انهرا وشلالات.. بدت لنا بعد أكثر من خمسين كيلو متر بعض المنزل ذات السقوف القرميدية الحمراء تظهر تباعا.. سارت بنا الحافلة أمام لوحة كبيرة كتب عليها جامعة الأخوين.. ثم تهادت في شوارع واسعة ونظيفة.. حدائق منتشرة.. هبطنا في ساحة يطل عليها رأس أسد صخري كبير يتجمع الناس حوله.. سألنا أحدهم عن أهم المعالم في مدينة إفران.. فدلنا على زيارة مرتفعات التزلج على الجليد.. وعين أفران وشلالاتها القريبة.. ثم نختم في بحيرة وسط المدينة .
حين خرجنا نحو المرتفعات كان الثلج قد ذاب بسبب ارتفاع حرارة الربيع.. وبدت لنا المدينة صغيرة بطراز مختلف عما ألفناه في المدن المغربية .. بأسطح منازلها الحمراء.. قابعة وسط غابات واسعة تحيطها وتملأ الجبال والسفوح المحيطة بها.. اتجهنا نحو العيون التي تتجمع لتشكل شلالات رائعة بالقرب من أطراف المدينة.. الصبايا انتشرت الأسر تحت الأشجار وحول مساقط الشلالات.. يصنعون شواءهم .. والبعض يلهو على صهوات الجياد..وآخرون يتسلقون المنحدرات.. يوما جميلا..أو شطر منه قضيناه وسط هدير الشلالات وزقزقة العصافير وأصوات الصبايا والصبيان. لنعود نودع مدينة إفران بزيارة بحيرتها الواقعة وسط المدينة تحيطها الأشجار الباسقة وقد حطت على فروعها طيور القلاق بلونها الثلجي الناصع. ودعنا المدينة هذه المرة في جوف عربة مرسدس. لنطل على مشارف مدينة فاس مع آذان العصر.. مدينة بدت من المرتفعات كطبق يشع بالبياض .. تكسوها خضرة السهول والمرتفعات المحيطة.
لا يشعر الزائر للمغرب بأي غربة.. أينما حللت تجد من سألت يبتسم وهو يحاول فهم سؤالك.. يجيب على ما تطرحه بكلمات عطرة.. وملامح باسمة.. فتشعر بالرضا والألفة.
هذا هو المجتمع المغربي شبابه وكهوله نساؤه ورجاله.. الكل يبتسم قائلا"مرحبا بك في المغرب" هذه الجملة تسمعها دوما عندما يعرف بأنك زائر. تسير أينما ذهبت وفي كل الأوقات فترى الأسيويين والأفارقة والأوربيين صغارا وكبار.. فرادى وجماعات يسيرون في أمان. بل أنك ستلاحظ بأن من يأتون لزيارة مدن المغرب كثر.. سترى أن نسبتهم في الأسواق والمقاهي والمطاعم يزيد عن نسبة السكان.
لا يوجد فردوس مفقود..فأنا أعيشه ..إنه المغرب..ولا توجد قطيعة أندلسية فهذه هي الأندلس. لماذا نبحث عن أحلام أخرى؟ هنا الإنسان المغربي قدم لنا وطنا جميلا.. فيه من الرضا ما فيه..الأمن..الحرية.. التطور..الحفاظ على الموروث وتحويلة إلى منتج يرفد الإقتصاد.. واستطاع أن يستغل بعض ما حبا هذه الأرض من خير وفير.. في الزراعة.. الغابات.. ثروات البحر.. ثروات الأرض.. السياحة.. وأجمل ما يمكن الشعور به هو ذلك الإنسان الذي يسحرك .. كل من زار المغرب لو سألته عما لفت انتباهه عند وصوله أول مرة سيقول لك الإنسان المغربي وسجاياه الرائعة.. فهو دؤوب على العمل والبناء.. الكل منشغل بما بين يديه الكل ينتج. فترى المدن العتيقة والحديثة مرتبة ونظيفة.. مشجرة ومبستنة.. ولذلك ترسخ لدي أن المغربي أفضل جنانيني.. أفضل بستاني.. وأفضل مزارع.
لقد لمست احترام الأنظمة والقوانين للطبيعة.. وحرص الجميع على سلامة البيئة.. وقيمة الشجرة أينما توجهت وفي كل التجمعات السكانية حضرا وريف.
لحظات فارقة جمعتني بـ - محمد جازم.. بشير زندال- في فاس.. ثم أفترقنا من جديد.. بشير عاد إلى الرباط.. وجازم ظل في فاس ..وأنا ابحث عن الجديد لأزوره داخل المغرب.. وقد أخذت الأيام المتبقية لي في المغرب تتناقص. وأنا أحاول أن أستغل كل ساعة منها..بعد أن كنت أعتقد بأنها لن تنتهي.
بعد أن عدنا من إفران حضرت مساء مهرجان فاس للثقافة الصوفية الذي اقيم على مدى ثمانية أيام في حديقة متحف البطحاء.. ومتحف البطحاء أحد القصور القديمة الذي حُول إلى منشأة ثقافية.. متحف وقاعات تشكيل وموسيقى ومحاضرات وملتقيات وورش.. ومنها ذلك المهرجان الصوفي الذي أجتذب جمهورا من جميع الفئات والجنسيات .وكان للفرقة الفاسية ليلة قدمت فيهاالطرق الوزانية والحراقية والصقلية.. أشعلت الحضور وجدا مع أصواتهم الجماعية التي تافت بأرواح الحضور. حين أنتصف الليل اختتموها بالصلاة على الرسول الأعظم يناجون شفاعته..يدعون الله أن لايخيب ظنهم..وأن لا يخزهم..توهج كل شيء ووقف الجميع ذكور وأناث يهتزون وهم يرددون ما يردده المنشدون.
خرجت مع الخارجين.. كانت الشوارع عامرة بالمارة.. والأسواق ما تزال ساهرة.. وهكذا هي فاس تطرب مع قدوم الليل كغانية هزها الشوق إلى منادمة القلوب وشغفها بملذات الحياة.
أغادر فاس وشعور غريب ينتابني.. فهذه المدينة سحرتني بألفة سكنت جوانحي.. هو شعور من يودع عزيز.. من يعد بالعودة ليسكن سكينة أزقتها ويجاور اضرحتها.. يتنسم هواء حدائقها .فاس لم تكن إلا روحا تسافر في عيوننا وعطرا يجاور تلافيف أحاسيسنا.
فضلت أن أودعها على حافلة بعد أن أتيتها على قطار حتى يتسنى لي رؤية مناطق جديدة على المسافة الفاصلة بينها وبين الرباط. وبالفعل أنتزعت نفسي انتزاعا وعيناي تودع المنارات المربعة.. والأسوار العالية.. وتلك بياض مبانيها ..تلالها وجبالها الغارقة في لجة الاخضرار.. وهكذا سارت بي الحافلة وهي تقل من النساء أكثر مما تقل من الرجال.. فكانت الرحلة أكثر طمأنينة بأصواتهم.. ترافقنا سهولا وأودية غارقة في خصوبة لا تنتهي.. تتخللها مجاري الينابيع والجداول التي تتحول إلى نهيرات تشق طريقها نحو المنحدرات.
تتجمع السحب ويهطل المطر فترى قطعان الغنم والبقر تبحث عن ساتر..وتلك الخيول تتبعها.. منازل تحاصرها الخضرة.. وكأن الأفق الأخضر يجرحه الاستثناء.
ومع اقترابنا من الرباط بعد أن اتسعت مساحات الغابات.. وتجمعت الجداول مشكلة أنهرا.. لتصب في حوض أبي رقراق ذلك النهر الذي يشق طريقه ليفصل بين مدينة سلا والرباط صابا لونه الأخضر الغامق غبة الأطلسي.
هاهي الرباط العاصمة الإدارية بتخطيطها العصري كعاصمة إدارية.. فعواصم المغرب كثر.. فهناك البيضاء العاصمة التجارية.. وهناك التاريخية فاس..وهناك الزراعية مكناس.. وهناك التراثية مراكش. وهناك الأركانية أغادير .. وهناك .. وهناك.. كل مدينة غانية لا أروع ولا أجمل منها.
الرباط بقلعتها (شالة) وسوقها القديم.. بمنارة حسان التي تقف شامخة دون استكمال لبقية رأسها على مجرة أبي رقراق .. بساحة أعمدة مسجد حسان الذي لم يكمل لضخامته.. يجاورها ضريح الحسن الثاني الذي هو في الأصل ضريح والده محمد الخامس.. ضريح ذا جلال يوازي جلال تاريخ ملك عظيم. يطل على نهر أبي رقراق الذي يفصل ويوحد مدينتي الرباط وسلا.. ليمر متعرجا باتجاه المتوسط.
وكم كانت سعادتي حين دُعيت إلى لقاء نظمته السفارة اليمنية على شرفي دعت فيه الطلبة اليمنيين في المغرب.. على ضفاف الأطلسي لقاء قرب وشوشة الأمواج وذرات ضباب البحر.. لتزداد سعادتي بتلك النظرات وخفقات القلوب المحبة لليمن.. طلبة الدراسات العاليا ممن يعدون لأطروحات الماجستير والدكتوراه.. وبعض من يدرون المرحلة الجامعية.. بينهم شهرت أن اليمن بخير.. فهذا من تعز وذلك من أب وثالث من شبوة.. ورابع من عدن وصنعاء والحديدة وحضرموت.. والبعض من الضالع وعمران وذمار.. هي اليمن بهذه الهامات القادمة بسلاح العلم والمعرفة.. لم أشعر بينهم إلا بكل إجلال واعتزاز ببلدهم.. وكأنهم أسرة واحدة يسمون بأرواحهم وعظيم أخلاقهم.. لأودعهم وطاقم السفارة وأنا أرى الغد أكثر روعة وحرية وعدل. استضافنا الصديق فضل السعيدي الذي يعد لمناقشة أطروحته لنيل درجة الدكتوراه .. وكان لقاءا في منزلة ازدحم بوجبات مغربية من طواجن اللحم والكسكسي.. وكان كريما.. وجميل المعشر.. دعاني بعض الأصدقاء من الدارسين هناك.. لكنني فضلت عدم فتح باب كهذا محبتا فيهم فشكرا لأولئك النجوم الذي يسهرون الليالي من أجل غد أكثر أشراقا.
وكم كان صديقي الروائي مصطفى لغتيري جميلا حين أبى أن أودع المغرب إلا بلقاء دعا إليه أدباء الدار البيضاء.. كم كان كريما وهو يتحدث في شهادة حول أعمالي الروائية..وحول أول معرفته بأدباء اليمن رادا الفضل للقاص والصديق بشير زندال الذي كان حاضرا اللقاء.. والصديق صالح البيضاني.. تحدث لغتيري وأفاض بنهر كلماته العطرة حتى مسني الخجل.. ثم تحدث فيه الشاعر والقاص عبدالله المتقي حديثا جميلا حول العلاقة بين أدباء المغرب واليمن. ثم تحدث الناقد اليمني دكتور محمد الكميم في كلمة مكثفة حول تقنيات رواية مصحف احمرر وظلمة الله ومدلولاتهما الموضوعية والتاريخية.وكان طرحا لفت إنتباه الحضور للكميم.
ليختتم اللقاء بحوار بيني وبين الحضور حول تجربتي السردية.. وفي الأخير وقعت ما أحضرته من نسخ كاهداءات .. تحية لهذا البهاء المغربي الجميل..
فشكرا للأصدقاء أدباء الدار البيضاء.. لغيتري مبدعا رائعا وجميلا وشكرا للأستاذ الكبير عبدالله المتقي.. وللصديقين محمد الكميم..وبشير زندال.. وليغفروا لي فقد كنت ضيفا متعبا لهم فكثيرا ما رافقاني إلى عدة مدن..وكثيرا ما نسقا لي بعض اللقاءات وشاركا فيها.
غادرت على قطار السابعة صباحا.. ضباب يلف الأنحاء.. غيرت قطاري في عين السباع.. وظل ذلك الضباب يحجب عني رؤية تلك المشاهد الجميلة من سهول خضراء ومروج سندسية.. استعضت عن النظر من النافذة إلى تلك الوجوه الصبوحة والفاتنة لشباب من الجنسين.. لأرى المغرب بخير.. فتلك الفاتنة جلست تقرأ في سرها من جهازها الأي باد سورة الكهف.. وآخر بين يديه مصحف صغير. أنه صباح مليء بالجمال والفتنة.. صباح تعطره تلك الملامح الساحرة.
وصلت المطار لتحلق المصرية في أجواء البيضاء التي كان الضباب الحليبي يغطي الرؤية.. وأنا أردد في نفسي "وان حجبك الضباب فأنا أحملك في نفسي"