الوكالة العربية للصحافة أپاپريس - Apapress
مقالات
أدب وفنون 
طقوس شهر رمضان الكريم بين الامس واليوم
رحم الله زمانا كانت لطقوس شهر الخير والبركات قدسية يمتزج فيها الطهر بالايمان وتشع في قلوب المؤمنين اشراقات وراحة نفس وبال وتعم الفرحة وجوه اسبغ عليها رب الارباب هالة من النور يتبادلون فيها التهاني والزيارات ويراعون حسن الجوار والاخذ بيد الفقير والمحتاج ويعلمنا المنطق العلمي فنتحول من القول وفق ما يقول القرآن الى العمل والتطبيق .فالصلاة تتكامل مع شهر الصيام في اطار من الانسجام والتوازن .شهر يعلمنا الالتزام والانضباط والصبر والتضحية والفداء كما يعلمنا الاستقامة والرأفة والرحمة والحنان وصلة الارحام والبر والاحسان فنظرتنا الى السماء في خشوع وابتهال وبقلوب طاهرة ليست النظرة التي نراها في الايام العادية ,ترجع بنا الذاكرة الى اوائل الستينات ونحن اطفال صغار الى طقوس كانت متجذرة في مدينة الرباط تتمثل في الاستعداد لشهر رمضان المبارك حيث كان يعتبر شهر شعبان بمثابة احتفال بقدومه يقوم ابناء المدينة واسرها بالتخييم والنزهات بمآثر شالة طيلة الشهر تجتمع فيها الاسر والعائلات بمختلف شرائحها وطبقاتها الاجتماعية تقام خلالهاسهرات فنية عائلية تعزف خلالها مقاطع من الطرب الاندلسي والملحون والغرناطي والشعبي وفي بعض الاحيان بعض الموشحات يمتزج فيها المغربي بالسوري ولا سيما موشحات فتى دمشق التي كانت تذاع صباح كل احد وكذا المالوف التونسي وكانت هذه السهرات في نفس الوقت مناسبة للتلاقي والتعارف وربط الصلات بين العائلات وبين شباب المدينة قد تسفر عن مشروع زواج باعتبار ان المروءة والاخلاق الطيبة والنبيلة والحشمة والوقار كانت السمة على المجتمع انذاك هذه الطقوس هي مايطلق عليها حاليا "شعبانة"بمضمونها الديني والاخلاقي اكثر منها تقليدا يفتقر الى لمضامين الاجتماعية والدينية
من الظواهر الاخرى التي كانت تثير الانتباه ظاهرة دوي المدفع التي كانت بمثابة الاعلان عن حلول فترة الافطار الذي كان ينطلق من مشارف قصبة الاوداية المطلة على شاطئ الرباط كنا نحس بشغف كبير وفرح طفولي ونحن نعاين طريقة حشو المدفع بالبارود والكربون ونحن نقتعد اماكننا على جنبات الاسوار المحاذية لمقبرة الشهداء .كان منظرا يوحي بكثير من المعاني التي كنا نجهل مضامينها وابعادها الروحية كان المذياع او الراديو الوسيلة الوحيدة للاستئناس والاستماع الى الاغاني العاطفية المتنوعة وكذا الاغاني التي تلحن من طرف الملحنين الخاصة بهذه المناسبة هذا المزج بين العاطفي والديني ينبي عن مدى الطهر والايمان الذي كان يشع في قلوب المحبين حب الله والخشوع له وروحانية هذا الشهر الفضيل وحب من نوع اخر يظهر البراءة والطهر والنية الصادقة للمقبلين على الزواج من خلال الاغاني التي كانت دار الاذاعة المغربية تذيعها من خلال برنامج ما يطلبه المستمعون الذي كان يشرف عليه المذيع اللامع ذ احمد ريان بصوته الشجي والتي كانت بمثابة رسائل مشفرة للحبيب او الحبيبة الغاية منها التعبير عن المكنونات واللواعج باعتبار ان الاصول والتربية والاخلاق الفاضلة كانت تمنع الشباب على اللقاء والافصاح وحيث ارتبط الايمان والطهر بالبراءة وارتبطت النبة الطيبة بالغصن الطري لتجعل الوئام والتلاحم والرباط المقدس البغية المنشودة لكل من يؤمن بالمحبة والاخوة والاحترام لتكوين اسرة صالحة وطاهرة بعيدة عن التزلف والنفاق والخداع والمنفعة الشخصية وكل المساوئ التي يعرفها العصر الحاضر .
ولعل مايعطي لهذه المزايا الايجابية تلك الاصرة القوية التي تجمع بين الاسرة الواحدة وباقي الاسر الاخرى مائدة رمضان التي كانت تضم اشكالا وانواعا مختلفة والحلويات التي تتناسب مع هذا الشهر الفضيل تتمثل في الحريرة الوجبة المتميزة مصحوبة بالثمر والحليب والبيض والبغرير والرغايف دون اغفال السفوف والزميطة اضافة الى المشروب الشعبي اي الشاي المنعنع الذي ينعش القلوب الذي لا تكتمل نشوته ونكهته الا بسماع الوان من طرب الالة الاندلسية والغرناطية والشعبية هذه الاخيرة تجد صدى طيبا في قلوب العاشقين التي تعطى للغة العيون التعبير عن وظيفتها من خلال الايحاءات والابتسامات تكون بمثابة جس النبض للمحبين . وما يزيد لهذه اللقاءات الاسرية والعائلية تلك الطقوس التي اعتادت عليها تتمثل في السهرات الجماعية بالمنازل التي كانت تتنوع حسب ميول اصحابها حيث كنا نلاحظ سهرات يومية باجواق مختلفة تترنم باغاني دينية وابتهالات روحانية تتخللها اغاني ترضي اذواق الشباب كما سبق ذكرها سيرا على مبدا اتفق عليه مسبقا وجريا على عادة مايطلق عليها حاليا " دارت" اي سهرة كل ليلة بمنزل من المنازل والجدير بالاشارة ان النساء كانت تحتل مكانا منفردا عن الرجال يشع من عيونهن الايمان القوي والنظرات الروحانية البعيد ة عن الابتذال وفي لباس محتشم وجلسة محترمة ,يقابلها سهرات اخرى بنكهة خاصة تتمثل في لعبة الورق باشكاله وانواعه المختلفة يتبادلون الحديث يتخلله في بعض الاحيان ضجيج يتماشى مع حالات المد والجزر للعبة ولا تكتمل الصورة الا عندما يستهدف احد الاصدقاء الذي تنهال عليه القفشات التي قد ترضي البعض ويشمئز منها البعض الاخر, الا ان المثير للانتباه ان الظاهرة التي كانت تجسد قدسية هذا الشهر الفضيل الاقبال الكبير على اداء صلاة الجمعة وصلات التراويح حيث كانت المساجد تمتلئ عن اخرها بالمؤمنين بجلاليبهم البيضاء رجالا ونساء شيوخا واطفالا تلك اللوحة الربانية الطاهرة المصحوبة بالخشوع الباري جل جلاله والاشعاعات النورانية التي كانت تشع من وجوههم جميعا تحس من خلالها بتلك الرهبة وفيض الايمان وحلاوته وراحة نفسية مما يؤكد ان الارتباط الوثيق بين المؤمن وربه وبين دينه وقيمه ومبادئه , ومن المعلوم ان رمضان كان له ارتباط وثيق بعادات ترتبط بطقوسه وهي ما يطلق عليها بالطبال والغياط او مايطلق عليه حسب بالمفهوم الشرقي المسحراتي الذي كان يطوف بين الاحياء وهو يردد ""ياعباد الله قوموا لا تناموا هذا وقت الخير قوموا تسلموا- رحم الله تلك الايام وما كان يمثله هذا الشهر العظيم من روحانيات وطهر وابتهال واخلاق وايثار وتراحم كان يبعد المؤمن عن الضغوط النفسية والاجتماعية والانحرافات بكل انواعها التي بدءنا نفتقدها في العصر الحديث نظرا لما عرفه ويعرفه من تحولات اجتماعية واقتصادية واستيلاب حضاري لكن جذور الايمان وتجلياته الراسخة في قلوب الاصول المنحدرة من شجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تابى ان تنجرف مع التيارات المتعددة لهذا العصر لذا كانت رؤية وبصيرة وبعد نظر فقيد الامة المغربية جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في سن سنة حميدة تجلت في الدروس الحسنية الرمضانية التي اثارت ردود فعل ايجابية واستحسانا واعجابا وتقديرا في كثير من الدول العربية والاسلامية كانت تلقى خلالها دروس دينية اكاديمية باسلوب يتماشى مع ما تعرفه الحضارة اليوم من تقدم وازدهار ان على المستوى العلمي او الاقتصادي كان يلقيها اساتذة وعلماء دين وفطاحل لهم باع طويل بالالمام بمبادئ الدين واصوله وفروعه ومضامينه يكفي ان نذكر منهم المصري ذ عبد الرحيم عبد البر واللبناني د صبحي الصالح ومن السينغال العالم جب والكاتب المصري مصطفى محمود ومن المغاربة العلامة المكي الناصري ذ عبد الرحمان الدكالي دون اغفال بعض المستشرقين من امريكا واوروبا واسيا .لقد كان لهذه السنة الحميدة الاثر كل الاثر على وريث عرشه جلالة الملك الانسان المتواضع والمحب لشعبه محمد السادس الذي سار على نهج والده في تثبيت وترسيخ هذا النهج ,واخيرا لابد ان نذكر حقيقة اساسية وموضوعية انه رغم ما يمثله هذا الشهر الكريم من منزلة رفيعة وقدسية في نفوس المغاربة عموما الا ان البعض منهم يرى ان مظاهر الحياة الجديدة ومباهجها كالفضائيات قد اخذت تلقي بظلالها على بركات هذا الشهر وتفقده الكثير من روحانياته وتجلياته ولم يعد رمضان يشكل ماكان يشكله في الماضي حيث كانت تختلط فيه مشاعر الحزن بالفرح الحزن بفراق هذه الايام المباركة التي يظل اثرها في النفوس وقتا طويلا ينشط فيها العابدون ويتوب فيه العاصون والفرح بقدوم عيد الفطر السعيد . لكن الذي يزرع فينا الامل ورغم السلبيات التي عمت كثيرا من المجتمعات العربية والاسلامية فان نظرة التفاؤل بالمستقبل تبشر بالخير اذ لا زالت بعض الطقوس راسخة في قلوب كثير من الشباب المغربي ويكفينا فخرا ان نلقي نظرة الى بيوت الله والباحات المجاورة لها لنر هذا العرمرم من الشباب وهم يلجونها بقلوب خاشعة في شهر الغفران مما يدل على ان المعدن اصيل وان من لازالوا في غيهم وضلالهم قد تاتي ريح مراجعة الذات لارجاعهم الى الصواب والطريق المستقيم
تعليقات القراء